إجابةً عن الأسئلةِ التي طرحتها في خاتمة المقال السابق، أقول: يقصد محمود شاكر بأول كلامِه جماعةَ الإخوان المسلمين. و«متكلمهم» كان يعني به الشيخ محمدَ الغزالي.
هل صحيح - كما قال - أنَّ «متكلمهم» لا يرد، بل يكذّب أحاديث البخاري ومسلم بأنهما من أحاديث الآحاد، بجرأة وغطرسة؟
الشيخ الغزالي فصَّل موقفَه من أحاديث الآحاد في كتابه «السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث»، والمدافعون عن موقفه من أحاديث الآحاد ينقلون عنه أقوالاً من هذا الكتاب لا تسند اتهام محمود شاكر له.
إن كان محمود شاكر في الاتهام الذي وجهه للغزالي، يقصد كتابه «السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث» فسيبرز هنا أكثر من مشكلة.
كتاب الغزالي هذا صدر في عام 1989. وكان هذا الكتاب من أواخر كتبه. وجماعة الإخوان المسلمين تأسست عام 1928. والغزالي بدأ التأليف في عام 1947.
الغزالي لم يعد «متكلماً» باسم جماعة الإخوان المسلمين من شهر ديسمبر (كانون الأول) عام 1953. وهذا التاريخ هو تاريخ فصله من الجماعة. فالغزالي ابتداءً من هذا التاريخ غدا «متكلماً» باسمه فقط.
بمراجعة عجلى لكتب الغزالي حين كان عضواً في جماعة الإخوان المسلمين لم أعثر على موقف يرى فيه عدم الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة والأركان. فقبل صدور كتابه «السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث» أبدى موقفاً من أحاديث الآحاد في كتابين؛ الأول «قذائف الحق» الصادر في السبعينات الميلادية، والآخر «دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين» في أول الثمانينات الميلادية، لكن هذا الموقف الذي أبداه في هذين الكتابين، كان مقتضباً ولم يبسطه كما في كتابه «السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث». أما أطفال الجماعة الإسلامية فيقصد محمود شاكر بهم الجماعات الإسلامية التي نشأت في مصر ابتداءً من أول السبعينات الميلادية. وأول واحد منهم قام بتلك المقولة التي ذكرها محمود شاكر هو شكري مصطفى مؤسس جماعة التكفير والهجرة.
إنَّ نقد محمود شاكر للجماعات الإسلامية الذي اعتدّ محمود الطناحي به، نقد لا قيمة له لإبهامه وإلغازه من ناحية، ولعيوب ذكرتها في المقال السابق وأكملت ذكرها في هذا المقال، من ناحية أخرى.
إنَّ نقد محمود شاكر الذي يعتد به، وكان نقداً قوياً ومتيناً هو نقده لكتاب سيد قطب «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، وهو النقد الذي لم يذكر فيه اسم الكتاب ولا اسم مؤلفه!
هذا النقد قدمه في أربعة مقالات، نشرت في مجلة «المسلمون» الإخوانية في الشهرين الأخيرين من عام 1951 وفي الشهرين الأولين من عام 1952.
في مقاله الأول «حكم بلا بينة»، وفي مستهل عرضه لمقولة مركزية في هذا الكتاب، قالَ محمود شاكر: «وقد تفشت في أهل الإسلام منذ زمن قريب فاشية شديدة الخطر على تاريخ الإسلام كله، بل على دين الله نفسه. نظرة متعجلة في دين ربها، وخطفت خطفة في تاريخ أسلافها، ثم انتزعت من ذلك كله حكماً يدمغ المسلمين جميعاً منذ القرون الأولى من الهجرة، باطراح الدين واتباع الشهوات، فزعمت مثلاً: أنَّ الإسلام لم يطبق ولم يعمل به إلا مدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدة أبي بكر خليفة رسول الله، ومدة عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، ثم مرج أمر الإسلام واضطرب!».
هذه المقولة، مقولة الإسلام المعطَّل من التطبيق من بعد خلافة عمر بن الخطاب، هي من أخطر مقولات كتاب سيد قطب التي تعرّض لها محمود شاكر بنقد تفصيلي.
وهذه المقولة كانت جديدة، فليس لها تاريخ في الفكر السني. ظهرت مع سيد قطب في كتابه المشار إليه، والذي كتبه قبل أن يتعرَّف على «حاكمية» المودودي و«جاهليته». وظهرت أول مرة مع المودودي قبل أن تظهر عند سيد قطب بما ينوف على العشرين عاماً.
من معطف هذه المقولة خرجت إلينا كتائب المتطرفين في الإسلام السني، جيلاً بعد جيل.
أكمل محمود شاكر في المقال الثاني الذي صاغ له عنواناً معبراً ودقيقاً عن نتيجة الأخذ بمقولة الإسلام غير المطبق في تاريخه. هذا العنوان هو «تاريخ بلا إيمان». أي أنَّ تاريخ الإسلام في - ادعاء سيد قطب - هو تاريخ بلا إيمان ديني بالإسلام!!!
في تقديري أن محمود شاكر كتب مقالاته الأربعة في نقد كتاب سید قطب «العدالة الاجتماعية في الإسلام» المتأخر قليلاً عن سنة إصداره، لما رأى تشيّع تلامذته، أعضاء «لجنة الشباب المسلم» لأفكار هذا الكتاب.
جمال الدين عطية في استدراكه النقدي على بحث عبد الوهاب المسيري «معالم الخطاب الإسلامي الجديد»، وهو يعدد الأسماء من خارج الإخوان التي تتلمذوا عليها، أغفل عمداً اسم سيد قطب كي يخفي أنهم في أول الخمسينات الميلادية شبوا على أفكار سيد قطب الدينية المتطرفة.
عبد العزيز كامل في كتابه «في نهر الحياة» ذكر اسم سيد قطب إلى جوار اسم محمود شاكر بوصفهما من الأسماء التي اتَّجه إليها ذلك النَّفر من الشباب للاستفادة منها. واحتفاءً بسيد قطب طبعوا له كتابه «دراسات إسلامية» في مكتبة لجنة الشباب المسلم.
توهَّم أبو الحسن الندوي في كتابه «شخصيات وكتب» أنَّ سيد قطب أحدث تعديلاً فيما كتبه عن عثمان بن عفان، في الطبعات اللاحقة لهذا الكتاب، استجابة لتمنيه عليه أن يخلو كتابه من نقد له، وأن يكون أرق مع الشخصيات التي أكرمها الله بصحبة رسوله. بعض التعديلات التي أحدثها سيد قطب في كتابه لم تكن استجابة لتمني الندوي عليه مع انبهاره بكتاب الندوي «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين»، بل لضرورة عملية، وهي أن نقد شاكر لكتابه نشر في مطبوعة إخوانية، والجهة التي قدمت له عرضاً بطباعة الكتاب طبعة ثالثة، هي جهة إخوانية، وهي شركة الطباعة والصحافة للإخوان المسلمين. فهذه الجهة التي طبعت الكتاب عام 1952، وجدت نفسها محرجة أمام نقد محمود شاكر، فطلبت من سيد قطب تعديل بعض العبارات، فحذف بعضها وخفف من بعضها في الصياغة.
محمود شاكر في مقاله الرابع «ألسنة المفترين» في نقد كتاب سيد قطب، تعرَّض بالنقد لكاتب آخر لم يسمِّه ولم يُسمِّ كتابه، وتحديداً في رسمه لشخصية يزيد بن معاوية. وذلك حين قال عنه: «ويزيد هذا شابٌ خلیعٌ لا يصلح أن يليَ أمرَ مدرسة ابتدائية، بل أن يقفَ على منبر الرسول، ويحلَّ مكان أبي بكر وصحبه».
هذا الكاتب هو محمد الغزالي. وقد قالَ هذا القول في كتابه «الإسلام والاستبداد السياسي»، وهو الكتاب الذي كان قد صدر في العام نفسه الذي صدر فيه كتاب «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، وهو عام 1949.
في نقد محمود شاكر للغزالي أتساءل: هل كان محمود شاكر يثأر لأخيه الشيخ أحمد شاكر من الغزالي؟
الغزالي في رده على كتاب خالد محمد خالد «من هنا نبدأ» بكتاب هو «من هنا نعلم» والذي صدر في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1950، قال في مقدمة الطبعة الأولى لهذا الكتاب دفاعاً عن الإخوان المسلمين: «إننا نعرف أن الشيخ أحمد شاكر القاضي بالمحاكم الشرعية أصدر فتوى بأن الإخوان المسلمين كفار!! وأن من قتلهم كان أولى بالله منهم (كذا). والرجل الذي كان يصدر هذه الفتوى كان ينبغي أن يطرد من زمرة العلماء، ومع ذلك فلا نحسب أحداً أجرى معه تحقيقاً».
الشيخ الغزالي افترى على الشيخ أحمد شاكر. فهذا الأخير لم يصدر فتوى بأن الإخوان المسلمين كفار، بل كتب مقالاً في جريدة «الأساس» بتاريخ 2 يناير (كانون الثاني) 1949 ندد فيه باغتيال الإخوان المسلمين لرئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي.
قال الشيخ أحمد شاكر - وهو يتحدث عن النظام الخاص في جماعة الإخوان المسلمين الذي قام باغتيال النقراشي –: «وقد رأيت أن واجباً عليّ أن أبيِّن هذا الأمر من الوجهة الإسلامية الصحيحة؛ حتى لا يكون هناك عذر لمعتذر، ولعل الله يهدي بعض هؤلاء الخوارج المجرمين، فيرجعوا إلى دينهم قبل ألا يكون سبيل إلى الرجوع».
هو حكم على أعضاء النظام الخاص بأنهم خوارج مجرمون ولم يكفِّر الإخوان المسلمين، كما ادعى الغزالي.
وفرّق في مقاله بين الجريمة الجنائية والجريمة السياسية. فقال عن الأولى: «القاتل يقتل وهو يعلم أنه يرتكب وزراً كبيراً».
وقال عن الثانية: «أما القتل السياسي، الذي قرأنا جدلاً طويلاً حوله، فذاك شأنه أعظم، وذلك شيء آخر. القاتل السياسي يقتل مطمئن النفس، راضي القلب يعتقد أنه يفعل خيراً، فإنه يعتقد بما بث فيه من مغالطات أنه يفعل عملاً حلالاً جائزاً، إن لم يعتقد أنه يقوم بواجب إسلامي قصّر فيه غيره، فهذا مرتد خارج عن الإسلام يجب أن يعامل معاملة المرتدين، وأن تطبق عليه أحكامهم في الشرائع، وفي القانون هم الخوارج كالخوارج القدماء الذين كانوا يقتلون أصحاب رسول الله ويَدْعُون على من اعترف على نفسه بالكفر».
أول مقال من مقالات محمود شاكر الأربعة نشر قبل أربعة أشهر من صدور الطبعة الثالثة من كتاب الغزالي «من هنا نعلم». أميل إلى أن محمود شاكر في مقاله الرابع، كان يثأر لأخيه من الغزالي الذي طالب بطرد أخيه من زمرة علماء الأزهر!
وأميل إلى أنَّه ثأر مرة ثانية من الغزالي في عام 1991، في مقدمة تحقيقه لكتاب «أسرار البلاغة». وللحديث بقية.