لم تعد النظريّة السياسية الدولية القديمة المرتبطة بالشرق الأوسط فعّالة؛ بل تبدّلت الأمور منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول). الفرص التي منحها المغامرون للدول الكبرى حيويّة وأساسيّة بالنسبة لهم. الدول ليست جمعيات خيريّة؛ بل إنها تحلب أنصاف وأرباع وأسداس الفرص من أجل استثمارها وتبويب سياساتها عبرها لعقودٍ مقبلة.
المشكلة التي يعانيها الإقليم تأتي من دول تنخر بها المنظّمات الإرهابية، وتبنى فيها الهياكل الدموية، كما هي الحال في لبنان موضع الجدل الحاليّ، بعد وقف إطلاق النار في غزة.
لقد اعتقد اللبنانيون أن ترمب خفّف من الاهتمام بموضوعهم الداخلي؛ وأن لديه كثيراً من القصص التي ربما تلهيه، بل وتمنحهم الوقت بغية المماطلة وتبطئة المطالب الأميركية الإصلاحية في لبنان، ولكن سرعان ما دكّت تدوينة المبعوث الأميركي توم برّاك قلاع الصمت وزلزلت تيار المماطلة في الحكومة والبرلمان معاً، وبالتزامن معها حلّق سربٌ من المسيّرات الإسرائيلية في سماء لبنان، في وقت أنهت فيه القوات الإسرائيلية أكبر تمرين منذ الحرب، لتعزيز الجاهزية على طول الحدود مع لبنان.
القصّة جدّية وما اعتاد الساسة اللبنانيون على هذه الصلابة والدفع الأممي تجاه الإصلاح ومطلب نزع السلاح.
كلمة ترمب في الكنيست كانت واضحة، إنه يمنح إسرائيل كل الحق في حماية وجودها «إلى الأبد». من دون إدراك المعنى السياسي هذا، فإن الدول المتورّطة في الحرب لن تنجو. نقاشات داخلية عقيمة في لبنان تتعلق بإجراء الانتخابات في موعدها، وجدل حول تعييناتٍ ثانوية، مع إهمالٍ واضح للأفكار الإصلاحية الداخلية ولم تأخذ مستوى الممارسة الجدّية التشريعية والتنفيذية.
تدوينة برّاك عنوانها: «سوريا ولبنان: الخطوة التالية نحو سلام شامل في الشرق الأوسط». بها قال: «إن واشنطن قدمت عرضاً إلى الحكومة اللبنانية يتضمن خطة لتحويل (حزب الله) إلى كيان سياسي حزبي مقابل نزع سلاحه، إلا أن المقترح رفض بسبب الانقسام داخل مجلس الوزراء اللبناني. الولايات المتحدة طرحت خطة جديدة لنزع سلاح (حزب الله) تدريجياً مقابل حوافز اقتصادية، إلا أن الحكومة اللبنانية رفضتها بسبب نفوذ الحزب داخل مجلس الوزراء. الفرصة لا تزال قائمة، فإذا استعادت الدولة اللبنانية احتكار السلاح عبر الجيش، فإن الشركاء الإقليميين مستعدون لتقديم الدعم والاستثمار».
يرى برّاك أن «نزع سلاح (حزب الله) لا يمثل فقط ضرورة أمنية لإسرائيل، بل هو فرصة للبنان لاستعادة سيادته وتحقيق انتعاش اقتصادي ملموس، فواشنطن خصصت خلال الشهر الحالي أكثر من 200 مليون دولار لدعم الجيش اللبناني، إلى جانب عرض تغطية دبلوماسية لتحول حزب الله إلى كيان سياسي سلمي».
ثم علّق على قمة شرم الشيخ وخطة ترمب «الطموحة» المؤلفة من عشرين نقطة، بهدف إعادة بناء المنطقة وتحقيق الازدهار المشترك ووقف الحرب في قطاع غزة.
الفكرة الأساسية أن الصبر الأميركي لن يطول، وأن الضغط على إسرائيل لتأجيل الضربة لن يستمر. الحالة الحربية لدى إسرائيل تريد إنهاء كل تهديدٍ لوجودها واستعمال هذا الفضاء السياسي عبر التغطية الأميركية الترمبية بأقصى قدرٍ ممكن، فاستثمار هذه اللحظة غير المسبوقة لها دولياً وأممياً ضرورة وجودية.
الخلاصة؛ إن لبنان ليس بمنأى عن الحرب، التقارير تتحدث عن استعداداتٍ غير مسبوقة في تاريخ الحروب بين لبنان وإسرائيل.
من هنا يكون الرهان على القيام بخطواتٍ إصلاحية تتعلق بنزع سلاح «حزب الله»، وبناء منظومة اقتصادية قويّة أشبه ما يكون بحلمٍ صعب المنال، ومن هنا تنفتح شهيّة الانتقام الإسرائيلي. العين على الحكمة والعقل والمصلحةـ وللأسف أن كل ذلك غير متوفر في السياسات العملية بلبنان، وهذا هو لبّ الإشكال وأسّ المعضلة ومكمن الخطر.

