مثلما كان متوقعاً، أثار قرار لجنة نوبل في أوسلو بمنح جائزة السلام لهذا العام للناشطة المعارضة الفنزويلية ماريا كارينا ماتشادو، عاصفة من الجدل حول طقس سنوي بدأ في فقدان بريقه منذ سنوات.
ويرى منتقدو القرار أن اللجنة اختارت ماتشادو، المعروفة بولائها الشديد لدونالد ترمب، لأنها لم ترغب في تكريم معشوقها مباشرة. وفي الوقت ذاته، فإن اختيار «يساري عالمي آخر» كان سيضفي مصداقية على الانتقادات التي تزعم أن معظم جوائز نوبل تحوّلت إلى مكافآت سياسية.
مثال على ذلك: مُنحت جائزة نوبل في الاقتصاد لمستشار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الاقتصادي. حتى في مجالات العلوم، تُوزع الجوائز بطريقة تعكس حسابات جيوسياسية. أما في الأدب، فقد كان الفائز، على مدى الثلاثين عاماً الماضية، كاتباً أو شاعراً ذا ميول يسارية ودائرة قراء محدودة خارج نطاق نخب أوروبا من محبي الشمبانيا والكافيار.
وفي الوقت الذي قد تكون هذه الانتقادات جديرة بالنظر أو لا، أعتقد أن الهجمات التي تتعرض لها ماتشادو (تحديداً من قبل تلك النخب ذاتها) ظالمة.
المؤكد أن ماتشادو لم تفعل شيئاً من أجل السلام بالمفهوم التقليدي المتعارف عليه. في الواقع، ترمب، الذي كان العقل المخطط خلف عدة اتفاقات هدنة هشة، بين إسرائيل و«حماس»، والهند وباكستان، والكونغو كينشاسا ورواندا، وإيران وإسرائيل، كان سيبدو مرشحاً أكثر منطقية لنيل جائزة نوبل للسلام.
وربما يكون أحد المخارج من المأزق الذي خلّفته الآيديولوجيا، إعادة تسمية الجائزة لتصبح «جائزة نوبل للمُناضل السياسي من أجل الحرية وحقوق الإنسان لهذا العام». وأنا مدرك تماماً لأن هذه التسمية الطويلة قد تثير جدلاً أكبر حول معاني «الحرية» و«حقوق الإنسان». إلا أنه في حالة ماتشادو، يمكن للمرء أن يطرح حجة داعمة لحملتها الشجاعة لإجبار نظام استبدادي على احترام دستوره الخاص، من خلال السماح بإجراء انتخابات حرة ونزيهة، بحسب ما تقتضيه قوانين البلاد.
من ناحيتها، لا تدعو ماتشادو إلى ثورة أو إلى الإطاحة العنيفة بنظام الرئيس نيكولاس مادورو «البوليفاري»، وإنما كل ما تطالب به إجراء انتخابات بحضور مراقبين دوليين، والتزام جميع الأطراف المتنافسة بقبول النتائج.
من جهتي، زرت فنزويلا للمرة الأولى عام 1972، في وقت كانت تحكمه نخبة أرستقراطية زائفة، تدّعي النسب الإمبراطوري الإسباني، وتنظر إلى السكان «الأصليين» باعتبارهم مجرد كومبارس في أحد العروض الصاخبة لسيسيل بي ديميل.
لذلك، عندما ظهر هوغو شافيز على الساحة، وأعطى صوتاً لأولئك «الكومبارس»، كنتُ من بين الكثيرين الذين رحبوا بهذا التغيير. وبعد إحدى رحلاته المبكرة إلى إيران، التقيت بهوغو شافيز الباذخ للمرة الأولى، ودار بيننا نقاش واسع تناول مجموعة من الموضوعات.
ومع ذلك، هيمن موضوعان أساسيان على الحديث: أولهما كان «إصرار» شافيز على إنهاء الفقر في فنزويلا. وقال: «لا يوجد سبب يجعل أي شخص فقيراً في بلد غني كبلدنا... أعطوني أربع سنوات فقط، فقط أربع سنوات!».
أما الموضوع الثاني، فكان ادعاء شافيز بأن الكنيسة الكاثوليكية، بتحريض من «الأوليغارشية الثرية»، تحاول تخريب ثورته الاجتماعية. بيد أنه على أرض الواقع، حصل شافيز على ثلاثة أضعاف تلك السنوات، وفي نهاية المطاف ترك فنزويلا فقيرة، إن لم تكن أفقر، وأكثر انقساماً عن أي وقت مضى، لخليفته مادورو الذي كان يُسميه «سائق حافلتي».
وتكشف الأرقام أن فنزويلا، التي تملك أكبر احتياط نفطي في العالم، حققت أكثر من 1.5 تريليون دولار من عائدات النفط في عهد شافيز ومادورو. ومع ذلك، وقعت في متاهة من العجز في الميزانية، والاقتراض العام.
ماذا حدث؟ ماذا فعل شافيز ومادورو بهذه الثروة غير المسبوقة التي تدفقت على فنزويلا تحت قيادتهما؟
ربما يكمن جزء من الإجابة في حقيقة أن فنزويلا تصدرت قائمة دول أميركا اللاتينية فيما يتعلق بهروب رؤوس الأموال. على امتداد سنوات، حول الفنزويليون ما يقرب من 170 مليار دولار إلى بنوك أجنبية، معظمها أميركية. كما أنفق «البوليفاريون» مليارات على دعم كوبا وتوزيع النفط مجاناً أو بأسعار رمزية في دول عدة، من بينها مناطق داخل الولايات المتحدة.
وفي النهاية، وجدت فنزويلا نفسها تعاني من نقص في البنزين، وتطلب واردات طارئة من إيران البعيدة. في مرحلة ما، قرر شافيز أن يصور نفسه باعتباره «مقاتلاً ضد الإمبريالية الأميركية». وبعد اتخاذ هذا القرار، أصبحت جميع الاعتبارات الأخرى ثانوية؛ فالقضاء على الفقر يمكن تأجيله إلى يوم آخر. أما فلسفة بوليفار، فيمكن تحويرها لتناسب الخطاب البطولي الجديد.
وعليه، نجد أنه في عهد مادورو، تحولت معاداة الولايات المتحدة إلى إنجيل بوليفاري جديد، يبرر أي تجاوز تحت شعار «النضال ضد الإمبريالية الأميركية»، بما في ذلك غض الطرف عن مهربي المخدرات في المنطقة لإغراق الأسواق الأميركية، فيما يصفه ترمب بـ«العدوان عبر المخدرات»، مبرراً بذلك اتخاذ إجراءات عسكرية ضد السفن الفنزويلية.
وبالفعل، أسس شافيز ومادورو ما يسمى بـ«التحالف البوليفاري» في أميركا اللاتينية، لكن الأنظمة التي اجتذبها هذا التحالف، أي كوبا ونيكاراغوا وبوليفيا، أقرب ما تكون إلى أنظمة شيوعية متقادمة أكثر من كونها تجسيداً للفكر البوليفاري.
من جهته، لطالما أصر بوليفار على فصل الدين عن الدولة. وكان يقف إلى جانب الفقراء. وكان يريد من أميركا اللاتينية أن تبحث عن حلفاء بين الديمقراطيات الغربية، وليس بين الطغاة في الشرق.
ورغب بوليفار في أن تنافس أميركا اللاتينية الولايات المتحدة من خلال تعزيز الحريات، وتحسين النظام التعليمي، وتحقيق النمو الاقتصادي، وتطوير الثقافة.
من جهتها، تناضل ماتشادو من أجل إعادة العقلانية إلى السياسة الفنزويلية، تلك الأمة التي كانت في الثمانينات قد بدأت السير، ولو بتعثر، على طريق الديمقراطية، ما شمل انتخاب شافيز كأول «شخص من أبناء البلاد الأصليين» يتقلد رئاسة فنزويلا. كما تولي مادورو السلطة بسلاسة وبطريقة قانونية في البداية.
لقد توفي بوليفار ودُفن في كولومبيا المجاورة، لكنه لم ينسَ قط فنزويلا التي وصفها بـ«جوهرة» في تاج حملته الطويلة للتحرير. ولو كان حياً بيننا اليوم، لأرسل باقة من الورود إلى ماتشادو، تقديراً لكفاحها السلمي والشجاع، من أجل الحرية.

