تعيش إسرائيل اليوم مأزقًا أخلاقيًا وسياسيًا لا يمكن إخفاؤه خلف لافتة "الديمقراطية"، فبينما تواصل قصف غزة ورغبتها في توسيع الاستيطان في الضفة، ما زالت تقدم نفسها للعالم كدولة قانون ومؤسسات، غير أن التجربة الممتدة منذ تأسيسها تظهر أن الديمقراطية الإسرائيلية كانت دائمًا محصورة داخل حدود الهوية، لا في مبدأ المساواة فهي تمنح حقوقًا لفئة وتنزعها عن أخرى، وتحتكم إلى القوانين فقط حين تخدم غاياتها الأمنية.
الاحتلال بطبيعته لا يمكن أن يتعايش مع الديمقراطية، لأنه يقوم على نفي الآخر وحرمانه من حقه في الحياة الكريمة، وما يجري في غزة اليوم ليس مجرد عملية عسكرية، بل اختبار مكشوف لمنظومة تدعي الدفاع عن القيم بينما تستخدمها كأداة لتبرير القوة، وما يضاعف من مأزق إسرائيل أن الرأي العام الدولي بدأ يتحول ضد روايتها التقليدية، فالمجتمعات الغربية التي كانت تتلقى الخطاب الإسرائيلي بلا مساءلة، باتت اليوم أكثر وعيًا بتناقضاته، وشهادات الميدان، وحملات المقاطعة، كشفت صورةً مختلفة لدولةٍ تستثمر في الحروب أكثر مما تستثمر في السلام.
لقد أثبتت التجربة أن السلام لا يمكن أن يفرض من الخارج، بل يبنى من الداخل على أساس التفاهم والإنصاف. والديمقراطية الإسرائيلية كما تبدو اليوم، رغم خطة ترمب للسلام ليست سوى وسيلةٍ لتجميل واقعٍ عسكريٍ قاسٍ، تستخدم فيها الانتخابات كغطاءٍ لاستمرار السيطرة، وتحول فيها المؤسسات إلى أدواتٍ لإدامة الاحتلال، إنها ديمقراطية تدار بمفردات الأمن لا بمفردات العدالة.
في المقابل قدّمت مبادرة السلام العربية التي أطلقتها المملكة عام 2002 رؤيةً شاملةً استندت إلى مبدأ الأرض مقابل السلام، والدور السعودي في المرحلة الراهنة يتجاوز البعد السياسي إلى قيادةٍ فكريةٍ في إعادة تعريف مفهوم السلام في المنطقة، فالمملكة تؤكد أن حل الدولتين ليس مطلبًا فلسطينيًا فقط، بل ضرورة لاستقرار النظام الدولي بأكمله، هذا الموقف المتزن جعل الرياض مركزًا محوريًا لأي نقاشٍ دولي حول مستقبل المنطقة، ومرجعًا أخلاقيًا في زمنٍ تراجعت فيه القيم أمام المصالح.
إسرائيل تواجه اليوم معادلةً واضحة: إما أن تختار طريق السلام الذي رسمته المبادرة العربية وحل الدولتين، وإما أن تستمر في إدارة نزاعٍ دائمٍ يهدد أمنها قبل غيرها.. العالم يتغير، ومفاهيم القوة تتبدل، بينما تبقى الديمقراطية الحقيقية رهينة احترام الإنسان لا احتلاله.

