منيرة العصيمي
كانت تنتظر ساعةَ قدومه من مدرسته، وعندما طرق البابَ سارعت إلى فتحه. فإذا به يُقبّلها ويضع حقيبته متثاقلًا. نظرت إلى عينيه، فشعرت بإعيائه، ورأت شحوب وجهه، فسألته بقلق عن حاله، فأجابها:
“تعثّرتُ أثناء نزولي من عتباتِ درج المدرسة، وسقطتُ على يدي»
تسأله بصوتٍ خائف:
هل أصبتَ بأي أذى؟
فيرد عليها: “أشعر بألمٍ شديد في عضدي»
رَقَّ قلبُها لحاله، بينما هو قد اختزل كلَّ العالم في ألمه ويدهِ المتورمة. صار اليوم كئيبًا بحزنه، وهي تتألم لوجعه الشديد. قضت يومها بأكمله بجانبه، تتفقد يده، وتمسح على رأسه و جبينه، وتعينهُ على أعماله.
وعندما حلّ الليل، وحانت ساعةُ نومها، لم تعرف للراحة طريقًا. كان عزاؤها الوحيد أن تتفقده كلّ عدة دقائق. حالة من القلق كانت تعيشها فلا ترى سواها وكأن العالم كله انطوى إلا تلك المساحة الصغيرة التي تقطن فيها مع كدرها.
أيقظته في ساعة متأخرة من الليل، و عبرا طريقهما إلى المستشفى، ثم صارت تنظر إلى نوافذ المستشفى حين وصولهما، وتتساءل:
هل يعلم هؤلاء المرضى عن الحياة خارج أبواب هذه العيادات؟
هناك، في قسم الطوارئ وأمام هذهِ اليد المتوجعة، تشكّلت أمامها غيمة من شعور المأساة، فتذكرت كوري تايلر حين كتبت مذكراتها مع مرض السرطان، وفرجينيا وولف عندما كادت أن تجن من نوبات كآبتها، وعائشة في رواية قصر الشوق وهي ترعى أسرتها المصابة بحمى التيفوئيد، وأحمد عبدالجواد في رواية السكرية وهو يسقط واهنًا وعاجزًا عن المشي بين أصوات المدافع وهلع الراكضين، و تذكرت بيت الفتاة الجميلة في رواية نساء صغيرات، و مذكرات سيلفيا بلات ورسائلها المتألمة.
ومن هنا، تبادرت إلى ذهنها فكرة كتابة مقالة عن أزمة المرض، لتضمنها تأملاتها واقتباساتها، وتترك الآخرين يتأملون معها.
في (الموت في البندقية) ومن شخصية آشنباخ كان المرض استعارة. وفي غيرها من القصص لايظهر المرض كحادثةٍ طبية، بل كحالة وجودية شاملة، وصفها الأدباء والفلاسفة في كتاباتهم، وتأملوها كتجربة إنسانية تكشف المعنى الأعمق للوجود. ونتاجهم كان شاهدًا على ذلك كديوان (أوراق الغرفة 8 ) للشاعر أمل دنقل، و قصيدة ( الكوليرا ) للشاعرة نازك الملائكة. وعند كيركيغارد في كتابه ( المرض حتى الموت) والذي يخرج بفكرة الإيمان الديني الذي هو قادر على إنقاذ الروح من اليأس.
جون هال، في مذكراته يرى أن عماه الجزئي هو من أعانه على قبول العمى الكلي، فقد حفظ ملامحه وملامح زوجته وأبنائه الكبار. وما أن تغشاه العمى التام حتى احتفظ بتلك الصور في ذاكرته، فهي لن تزول إلا في حال تبدل الأمكنة والأثاث. ولكنه عاش أزمته الحقيقية حين رُزق بأبناء آخرين، فلا يعرف ملامح وجوههم، وهم لا يعرفون والدهم إلا أنه أعمى.
كما تذكّرت جوزيه ساراماغو في روايته العمى، حين كتبَ عن الرجل الذي تأزّم بعدما أضاءت الإشارة الخضراء وسيارته ما تزال واقفة، ولم يعرف ماذا يفعل؟، فقالها للمرة الأولى:
أنا أعمى.
وفي أثناء رحلة العلاج كان يعمل الكاتب إرسكِن كالدِول على إتمام كتابه الأخير وهو كتاب مذكراته الذي يحمل عنوان (بكل ما أوتيت من قوة) ثم توفي بعدها في بيته. و من رواية حليب أسود تقول أليف شافاق: «أما في الأماسي، فإنني ألبث وحيدة بعد أن يغادر الكل المبنى. ثمة شيء يقشعر له بدني عندما أكون وحيدة في مثل هذا المنزل الكبير الذي يشمله الهدوء و تلفه الظلمة على حين بغتة. أما في الليل، فأرتبك وأضطرب حين أحاول أن أخلد إلى النوم»
وهذا الاقتباس يحيلنا إلى الشاعر المتنبي وزائرته الحيية والتي يخبرنا بموعد زيارتها فيقول: «فليس تزور إلا في الظلام».
وللعباس بن الأحنف بيت جميل يصور فيه الحال، فيقول:
أُردُد رُقادي ثُمَّ نَم في غِبطَةٍ
إِنّي اُمرُؤٌ سَهَري لِنَومِكَ حاسِدُ
من قصيدة كان مطلعها: قالَت مَرِضتُ فَعُدتُها فَتَبَرَّمَت
وبعد أن فرغتَ من المشي، وتشكلت في ذهنها صورةٌ مكتملة من تأملاتها حول هذا الموضوع، جلست على مقعدٍ في الحديقة فإذا بقطةٍ تأتي من بعيد، تموء بصوتٍ خافت، وتقفز قريبًا منها، ثم ترفع إليها نظراتٍ مثقلةً برمدٍ يملأ عينيها. أسفت لحالها، ونهضت تبحث عن وسيلة لعلاجها، وهي تحادث نفسها:
أهي صدفة أم أن عليّ أن أُضيف عملًا جديدًا إلى خطط حياتي، إلى واجبي الإنساني؟
تلك هي أحوالهم، وأزماتهم التي مرّوا بها وعاشوها، حيث واجهوا مصائرهم بشجاعة. وكأن الحياة تعرف دائمًا أنه لا بدّ للمرء أن يمرّ بأزمةٍ ما. ولقد أعلن نيتشه على لسان زرادشت: «ولقد أسَرت لي الحياة نفسها قائلة: انظر... إنني ذلك الشيء الذي لابد أن يتخطى ذاته في كل حين».

