الشعرُ في جوهره العميق ليس قولًا جميلاً ولا حرفةً لفظيةً تُنَظَّمُ كما تُنَظَّمُ القصائد لجوائز دورية، هو لحظةُ وعيٍ متوهّجة، ينفلت فيها الوجودُ من عقال اللغة ليعبّر عن نفسه عبرها، كينونةٌ تتجلّى في الكلمة، كما يتجلّى الضوء في قطرة ماء، ولهذا ضلّ كثيرون طريقهم إليه حين ظنّوه غرضًا يمكن تدجينه أو تفسيره، فاشتغلوا على تأصيله نظريًّا حتى تكلّس في أذهانهم، وزهدوا فيه بعد أن جفّ ماءُ الدهشة في أرواحهم، ثم رموه بحجارة إدراكهم، أو ألقوا عليه ورود توقّعاتهم الباهتة، كأنّهم يريدون أن يُلزموا المعجزة بالبرهان!
لقد عاش بعض الشعراء أسرى لتاريخهم، متشبّثين بصورة الشاعر القديمة.. تلك التي رسمتها القبيلة حين جعلت منه وزارة إعلامها الأولى، والناطق باسمها، وواعظها وسيفها، وصوتها في ساحات المعارك، صورةٌ مجيدة، نعم، لكنها لم تكن إلا انعكاسًا لعصرٍ كانت فيه الكلمةُ ديوانًا للدم، لا مرآةً للروح، وما يزال كثيرون يحنّون إلى تلك الصورة، لا لأنهم يحبّون الشعر، بل لأنهم يخشون تحوّله إلى ما لا يستطيعون فهمه، يغفلون أنّ الزمن تجاوز المنبر، وأن الشاعر لم يعد مرشدًا جماعيًا بل كائنًا منفردًا، يكتب ليصالح اللغة مع جراحها، ويعيد للإنسان صوته الداخليّ وسط ضجيج الآلة والعالم...
الشعر، اليوم، لم يعد وظيفةً للقول، بل تجربةً في الوجود، إنه تحوّر الجمال حين يبحث عن مكانٍ في عالمٍ بلا جمال، واختبارٌ لقدرة اللغة على أن تظلّ خالقةً في زمنٍ تستهلك فيه الحقيقة نفسَها، الشاعر ليس واعظًا ولا متسوّلًا باسم الإبداع، بل كيميائيّ الروح الذي يحوّل المأساةَ إلى نورٍ، واليأسَ إلى أغنيةٍ هادئةٍ تتسلّل من شقوق الخراب.. عليه أن يقيم اليوم في مختبر ذاته، يتأمّل الغبار على النافذة كأنه مجرّة، واليمامة التي بنت عشّها ثم هجرت كأنها درسٌ في الحنين، والرسالة التي لم تصل كأنها نشيدُ اللغة المؤجّل.
الشاعر اليوم لا يكتب من أجل الجمهور، بل من أجل أن ينقذ اللغة من الاستعمال، فهو الذي يخلقُ الحضور من الغياب، ويرى في العدم جمالًا قابلاً للتأمل، وفي كلِّ انكسارٍ معنىً للامتلاء، يُسكن اللغة في صحراء الروح كي تزهر، لا في صالات الندوات حيث تموت مترفةً بالتصفيق، الشعر عنده ليس تعبيرًا بل تخليصٌ من التعبير، لا وصفًا للعالم بل إعادةُ اختراعه على مقاس الحلم.
ولهذا، فالشاعر لا يسعى إلى قيادة أحد، لأنه يعرف أن الطريق إلى الجمال فرديّ، وأن القصيدة لا تُتلى كما يُتلى البيان، بل تُعاش كما يُعاش الوجع، إنّه الكائن الذي يجوع لقصيدته، ولا يأكل منها، يحرث الفراغ ليزرع فيه معنى، ويمشي في الغياب كمن يعلّم الخطا كيف تكون طريقًا، كلُّ ما حوله يتحوّل في روحه إلى استعارة.. المطر ذاكرةُ الكون حين يبكي، الريشةُ وعدٌ بالعودة، الضوءُ جرحٌ مفتوح على السماء، وهكذا..
الشعر في زمننا ليس رفاهيةً، بل ضرورةَ النجاة الأخيرة للإنسان من ابتذال الوجود، هو الذي يمنحنا حسّ البقاء في وجه الفناء، ويعيد ترتيب الفوضى على مهلٍ داخل القلب، كلّما ضاقت اللغة، توسّع الشعر ليحملها؛ وكلّما خفتت المعاني، عاد الشاعر ليشعلها من رماد التجربة.. والشاعر بهذا ليس وليًّا ولا متكلّمًا باسم أحد، بل شاهدٌ يقف على حافة العالم، يُصغي إلى أنين الجمال وهو يُصلب في الأحداث، يكتب كي لا يموت الحلم، ويتذكّر أن الشعر لا يُمنح، بل يُنزف، ولذا، سيبقى الشاعرُ وحده الكائنَ الذي لا يملك شيئًا سوى كلماته، ولا يسكن مكانًا سوى اللغة، ولا يطلب خلاصًا سوى أن يقول ما لا يُقال، لأنّ قوله هو ذاته فعلُ الوجود حين يخاطب روح الإنسان فينا.

