فضيحةُ أموالِ الدعم الزراعي الأوروبية التي تعصف باليونان ليست الأولى ولن تكونَ الأخيرة، في ظل ضعف الرقابة والشفافية والمحاسبة. ولا تنحصر هذه الظاهرة في الاتحاد الأوروبي واليونان بالتحديد؛ إذ ضرب الهدر وسوء الإدارة برامج عدّة حول العالم تدعمها منظمات دولية، كثير منها في مجالات البيئة والمناخ ورعاية الطبيعة. هذه جرائمُ ضد الإنسانية لا يتحمّل مسؤوليتَها فقط أولئك الذين يسرقون الأموال العامة، بل المنظمات والهيئات المانِحة أيضاً التي تضع برامجَ فضفاضة تشجّع الفساد والهدر.
من الثابت أن نجاح السياسات التغييرية الكُبرى التي تهدف إلى النفع العامّ يتطلّب مزيجاً من الحوافز والروادع. وهذه تشمل أشكالاً من الإعفاءات والدعم للممارسات والبرامج المفيدة، إلى جانب الضرائب والغرامات على تلك التي تتسبب بأضرار. والأمثلة على هذا كثيرة: فوقف استعمال المواد المستنفدة لطبقة الأوزون والتحوُّل إلى مواد جديدة غير مضرّة، لم يكن ليحصل لولا الدعم الكافي لبرامج التحوُّل على مدى سنوات، خاصة في الدول الفقيرة. والانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة ليس ممكناً بلا دعم للمنتجين والمستهلكين. واستبدال بالأنماط الزراعية المستنزفة للموارد من مياه وتربة والمسبّبة للتلوُّث، أخرى مأمونة، والحفاظ على الموائل الطبيعية والغابات والمراعي، والحدّ من استخدام أنواع من المبيدات والأسمدة الكيميائية المضرّة بنوعية التربة والمياه والهواء والمناخ... جميعها تتطلب دعماً للقطاع الزراعي، في موازاة وضع رسوم مرتفعة على الممارسات والمواد المطلوب وقفها أو تخفيف استعمالها.
هذه نماذج قليلة لبرامج مفيدة تحتاج إلى مئات المليارات من الإنفاق العامّ. لكن الشرط الأساسي لنجاحها أن تلبّي الأهداف الموضوعة لأجلها، وتكون قابلة للتطبيق، مع آلية صارمة للإشراف والرقابة من جهات مؤهلة مستقلّة. أما الوضع الأسوأ فحين يراقب واضعو البرامج أنفسهم ويتبادلون الخدمات والتنفيعات مع حلقة ضيقة من صائدي الفرص، في غياب الشفافية والمحاسبة. وتشمل حلقة الإهمال والفساد أطرافاً على جميع المستويات، في الحكومات والمنظمات الدولية ومؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص.
فضيحة الفساد الأخيرة في اليونان شملت سوء استخدام 400 مليون يورو من ضمن برنامج الاتحاد الأوروبي للدعم الزراعي، أبطالها سياسيون ومسؤولون حكوميون. وقد حصلوا على الأموال لمشاريع وهمية، بعضها في أراضٍ غير موجودة أصلاً، وغطوا أفعالهم بتقارير مزيفة، مع توسُّع التحقيق ليشمل المليارات من أموال الدعم. وللمفارقة، فأحد المتورطين في عمليات النهب مسؤول عن برامج التمويل الأوروبية في الحزب الحاكم. لكن الفساد في أموال الدعم يتخطى الزراعة والحكومات إلى قطاعات عدة، قد يكون من أبرزها البرامج المرتبطة بالبيئة والمناخ، وأبطالها شركات خاصة وهيئات وهمية تتلطى بالمجتمع المدني.
المحزن أن عمليات الاحتيال والنهب هذه توفّر وقوداً للجماعات الشعبوية التي تعمل على تفكيك الاتحاد الأوروبي والتقوقع داخل حدود قومية كأنها محميات مسيّجة لأنواع منقرضة؛ لذا فالدعوة إلى وضع حدّ للهدر والفساد هي بالفعل دعوة إلى حماية الاتحاد الأوروبي من العابثين؛ لأنه ضرورة لشعوب دول القارة وحوض المتوسط والعالم، للتنمية كما لتوازنات القوى وتعدُّد الأقطاب.
الاتحاد الأوروبي ضروري للعمل البيئي والمناخي ضمن المنظومة الدولية. ورغم البطء في تنفيذ التعهدات والبرامج بسبب تداعيات جائحة «كورونا»، وحرب أوكرانيا، والآثار الاقتصادية للرسوم الأميركية؛ لا تزال «الصفقة الخضراء» التي أقرّها الاتحاد الأوروبي عام 2020 من أبرز المبادرات الدولية التي تربط العمل المناخي برعاية البيئة وحماية الموارد الطبيعية. ولم يتراجع الاتحاد الأوروبي عن التزامه تحقيق «الحياد الكربوني» بحلول سنة 2050، مع هدف مرحلي لخفض الانبعاثات بنسبة 55 في المائة بحلول 2030.
كما أن التعاون البيئي والإنمائي الدولي لا يحتمل خسارة الدور الرائد للاتحاد الأوروبي، كذلك لا تحتملها دول حوض البحر المتوسط الجنوبي، بما فيها المجموعة العربية التي تقدم أوروبا شريان حياة لها في مجالات عدّة. وتمثّل هذه الدول الجنوبية، في المقابل، مجالاً طبيعياً لتعاون وتكامل أوروبي - متوسطي؛ لذا لا يحتمل أي من الطرفين خسارة الثقة بسبب الهدر والفساد.
يضخّ الاتحاد الأوروبي المليارات لدعم برامج بيئية وإنمائية في دول حوض المتوسط، في إطار مبادرات متعددة، بعضها مباشر والآخر ضمن برامج دولية، من أهمها «خطة العمل للبحر المتوسط» التي يقودها برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب)، وتجمع الاتحاد الأوروبي مع 21 دولة في إطار «اتفاقية برشلونة». ومن أبرز أجهزة هذه المنظومة «المفوضية المتوسطية للتنمية المستدامة» التي تتابع تنفيذ الاستراتيجية وتحديثها، وهي تجمع، إلى جانب الحكومات، ممثّلين عن المنظمات غير الحكومية والهيئات العلمية والحكم المحلي. وقد يكون هذا هو الملتقى الوحيد حيث تلتقي دول حوض المتوسط، على اختلاف توجهاتها، حول طاولة واحدة مع الاتحاد الأوروبي، لاستنباط أنجع السبل والبرامج لحماية البيئة المشتركة والتعاون الإنمائي.
الفضيحة الأخيرة لهدر الأموال الأوروبية في اليونان يجب أن تكون جرس إنذار لبرامج أوروبا المتوسطية، نحو اعتماد معايير تفرض الشفافية والرقابة الصارمة، بالتعاون مع شركاء الاتحاد من المنظمات الدولية؛ إذ لا يجوز، مثلاً، أن تستمر ولاية بعض الأعضاء غير الحكوميين في هذه البرامج واللجان أضعاف المدة المسموح بها، بالتحايل على القوانين تحت أسماء هيئات مختلفة، بما يخالف مبدأ المداورة والتجديد. وهذا يسمح بتشكيل تكتلات تتبادل الخدمات وتروّج لمبادرات تتحوّل إلى مشاريع بالملايين، من أموال الاتحاد الأوروبي خصوصاً، لمصلحة جمعيات وهيئات، بعضها وهمية، في تضارب صارخ للمصالح.
الشعوب الأوروبية تحتاج إلى الروحية الجامعة للاتحاد الأوروبي، كما يحتاجها جيرانه في حوض المتوسط، وهو ضرورة للعمل التعاوني والتوازنات الدولية. لكن الحفاظ عليه قوياً يحتاج إلى تطبيق مبادئ الشفافية والمساءلة والمحاسبة لضمان الكفاءة ومنع الهدر. أما التخلُّف عن هذه المهمة فهو تعبيد الطريق للحركات الانعزالية الشعبوية في أوروبا، وخسارة تجربة رائدة ونادرة في التعاون الإقليمي.