في كل مرة تتلقى فيها إعلانًا يشبه ما كنت تفكر فيه، أو مقطع فيديو يلامس مزاجك اللحظي، أو توصية بمقال أو منتج لم تطلبه تذكر أن ما يحدث ليس مصادفة، بل نتيجة تحليلات عميقة لسلوكك الرقمي. نحن لا نعيش فقط في عالم رقمي، بل نعيش في عالم يُصمم لنا خصيصًا من قبل خوارزميات لا تنام.
خلف هذا التخصيص الذكي تكمن تقنية الذكاء الاصطناعي، التي تراقب، تتعلّم، وتُعيد تشكيل ما نراه، نقرؤه، وربما حتى ما نؤمن به. هذه ليست مراقبة تقليدية ظاهرية، بل ما يُعرف بالمراقبة الناعمة، حيث يتم توجيهنا بهدوء عبر أدوات غير مرئية، عبر ما نعتقد أنه اختيار شخصي، لكنه في كثير من الأحيان خيار تمت هندسته مسبقًا.
ما يجب أن ندركه هو أن الخصوصية في زمن الذكاء الاصطناعي لم تعد مقتصرة على كلمات المرور وإعدادات التطبيقات. الخصوصية اليوم تعني الحفاظ على حرية القرار والتفكير دون تدخل خفي. حيث أصبحت خوارزميات الذكاء الاصطناعي، وتحديدًا النماذج اللغوية الضخمة مثل تشات جي بي تي تمتلك القدرة على تحليل أنماط حديثنا، نبرة تفاعلنا، وحتى نوايانا، لتُنتج استجابات مصمّمة تؤثر على سلوكنا.
النماذج اللغوية الضخمة هي من أكثر أدوات الذكاء الاصطناعي تطورًا، وتُدرّب على مليارات الجمل والمعلومات التي تم جمعها من الإنترنت، بما في ذلك شبكات التواصل الاجتماعي، المقالات، وحتى تفاعلات المستخدمين. هذه النماذج ليست فقط ذكية، بل مؤثرة جدًا في تشكيل الرأي وسيتنامى دورها تدريجياً مستقبلاً. أحد أبرز الأمثلة على خطورة الاستخدام غير الواعي لهذه النماذج هو ما حدث مع بعض موظفي إحدى الشركات التقنية العالمية، عندما أدخل مهندسون معلومات حساسة داخل أحد النماذج اللغوية الضخمة لحل مشاكل برمجية معقدة. دون إدراكهم، أصبحت تلك البيانات ضمن سجل تدريب النموذج، مما أثار مخاوف كبرى حول تسرب المعلومات السرية للشركات، وأجبر الشركة على حظر استخدامه داخليًا.
ليس المطلوب أن نخاف من الذكاء الاصطناعي، بل أن نفهمه ونستعد له. الوعي الرقمي هو خط الدفاع الأول: أن نسأل أنفسنا، من يملك بياناتنا؟ كيف تُستخدم؟ ولماذا يُقترح علينا محتوى دون آخر؟ الإدراك بهذه الأسئلة هو ما يمنحنا السيطرة، خاصة في المحتوى الذي يتم تزويد الأنظمة اللغوية الضخمة بها وهي ما تتطلب وعيًا عاليًا جدًا.
يمر العالم اليوم بحراك ضخم وربما بعض الأنظمة لم تؤطر بعد لحوكمة عمل نماذج اللغة العملاقة، وعلينا أن ندرك أن كل استفسار نقدمه لهذه النماذج قد يصبح جزءًا من قاعدة معرفته لاحقًا، ما لم يتم إلزام سياسات خصوصية صارمة وواضحة تؤطر عمل النماذج.