ناهد الأغا
جملةٌ نسمعها أحياناً، تُقال حين لا مفرّ من الخطأ، ولا سبيل لتداركه، فنجد أنفسنا أمام واقعٍ لا يُصلحه إلا الانتظار..
ذلك الانتظار الذي يُثقل الوقت ويُرهق النفس، خاصة حين تتزاحم مشاغل الحياة، وتتكدس المسؤوليات بين العمل والأسرة وسائر تفاصيل الأيام التي لا تهدأ.. ويشتدّ الوجع حين يكون الانتظار لطبيبٍ يُطمئن القلب، أو لغالٍ نرجو له الشفاء،
فتتحوّل الدقائق إلى قلقٍ ودعاء، ويمضي الوقت ببطءٍ يشبه خوف الأمّ على طفلها.. وربما ننتظر معاملةً طال أمدها، أو إجراءً يسكنه الرجاء والملل، فنفرغ ما تبقّى من صبرنا على أرصفة الوقت، نُمسك بخيط الأمل، نضطر للانتظار.. الانتظار امتحانٌ لقدرتنا على البقاء هادئين في مواجهة ما لا نملك له تغييرًا.. نصبر، ونبدو أقوياء..
وخلف الهدوء تنهيدةٌ طويلة وحلمٌ صغيرٌ يتشبّث أن يعود السيستم يعمل ثم ماذا بعد الانتظار؟ ماذا عن الهموم التي تتسلّل من بين اللحظات الهادئة، وعن الصدمات التي تقتحم القلب بلا موعد؟ هل للصدمات نظامٌ واضح؟
هل هناك «سيستم» يعلّمنا كيف نستقبلها بأقل خسائر؟
الهموم لا تستأذن، والصدمات لا تُمهّد لدخولها، تدخل حياتنا كما يدخل الغبار من نافذةٍ مفتوحة، تربك ترتيب الأشياء في داخلنا، وتغيّر ملامح الأيام في لحظة.. وقد تكون الصدمة فقدان شخصٍ عزيز، أو خذلانًا غير متوقّع، أو تراجعًا في صحةٍ كنا نظنها متينة، أو حتى موقفًا بسيطًا يُعيدنا إلى جرحٍ لم يلتئم بعد..
لكنّ الأعجب من كل ذلك هو ما يحدث في داخلنا بعد الصدمة.!
هناك نظامٌ داخلي دقيق، سيستم خفيّ لا تصنعه التكنولوجيا إنما تصنعه التجارب، ويهذّبه الألم، ويغذّيه الإيمان..
هو الذي يعيد ترتيبنا بعد الانكسار، ويُعلّمنا كيف ننهض من جديد..
والصدمات دروسٌ صامتة تُعيد بناء وعينا على مهل.أما سعة الصدر، فهي المهارة الكبرى، التي تجعلنا نرى وراء الأحداث معنى، ونجد في الضيق متسعًا للرحمة... حين تتعطّل الأنظمة من حولنا، ونقف في طوابير لا تنتهي، ونسمع عباراتٍ تتكرر: «النظام متوقف.. انتظر قليلًا»، نبتسم مرغمين، لكننا نعلم في أعماقنا أن الأعطل الحقيقي في الداخل حين يضيق الأفق، ويختلّ اتزان القلب..
ومع ذلك، يظل فينا نظامٌ لا يتوقف، نظامٌ إنسانيّ بديع، هو سيستم القلب ذلك الذي يجعل الموظف الصابر يبتسم رغم الإرهاق، ويجعل الطبيب يسهر ليرى مريضه يبتسم، ويجعل المعلم يحتمل عناء يومه ليضيء عقلًا جديدًا، ويجعل الأمّ تُخبئ وجعها خلف ابتسامةٍ لأطفالها، ويجعل الإنسان -ببساطة- قادرًا على أن يحب رغم الخيبات، وأن يمنح رغم ما فقد، وأن يواصل الطريق مهما طال الانتظار.. قد تتعطّل الأجهزة، وتتعثّر الأنظمة، وتتأخر النتائج والمواعيد، لكن ما يُبقي هذا العالم قائمًا هو ذلك النظام الفطري، ذلك التوازن الذي خُلِق في داخلنا لنُواصل، ونُداوي، ونغفر، ونبتسم رغم كل شيء، إنه نظام القلب.. إنه وفي قلب كل انتظار، وفي عمق كل صدمة، تتدرّب النفس على فنّ الصبر، لنصبح قادرين على رؤية الضوء وسط العتمة، نتعلم كيف نواجه ما يحدث، وكيف نصنع من كل تجربة قوة، ومن كل جرح نورًا، وفي النهاية، حين يختبرنا العالم بأعطال السيستم، تكون النفس المدربة جاهزة، قادرة على الإصلاح، على الصبر، على المحب.

