في زمنٍ تزاحم المؤثرات وتسارع القرارات، ورغبتنا تحقيق أهدافنا، بالذات عبر الآخرين، يبرز "الذكاء العاطفي" كمهارة أساسية تصنع الفارق، وتقود نحو النجاح، ليس مجرد مصطلحٍ نفسي أو مهارةٍ تدريبية، بل هو -في رأيي وتجربتي- دُرّة فنون الحياة؛ أن تفهم نفسك أولاً، ثم تفهم الآخرين، لتعرف كيف تتعامل بتعاطف، وتقود بحكمة.
الذكاء العاطفي هو ما يجعل القائد مطاعاً، والمعلم ملهِمًا، والموظف مؤثرًا، هو القدرة على أن تبصر خلف الملامح، وأن تقود مشاعرك كما تدير مشروعك، لأن النجاح اليوم في بيئة الأعمال، لم يعد رهينًا بالشهادات أو الخبرات، بل بالقدرة على التعامل باحترامٍ وتعاطف، فالقائد الذكي عاطفيًا لا يرفع صوته، بل يرفع وعيه بمن حوله.
يرى مؤلف كتاب "الذكاء العاطفي.. لماذا قد يكون أهم من معدل الذكاء!"، العالم النفسي "دانيال جولمان" أنه: "القدرة على التعرّف على مشاعرنا ومشاعر الآخرين، وتحفيز أنفسنا، وإدارة العواطف بفعالية في علاقاتنا"، أما مؤسسا المفهوم علمياً "بيتر سالوفي" و"جون ماير"، فيعرفانه أنه "القدرة على إدراك العواطف، واستخدامها وفهمها وتنظيمها، لتوجيه التفكير والسلوك نحو نتائج إيجابية".
الرائع أن الذكاء العاطفي ليس موهبةً معقّدة، بل مهارة يمكن تعلمها وصقلها، وقد قسّم "جولمان" هذه المهارة إلى خمسة مستويات، كما لو كانت سلّماً يصعده الفرد نحو النضج العاطفي، وأول خطوة هي: الوعي الذاتي، أن تعرف مشاعرك، ما الذي يحركك ويغضبك ويفرحك، وتأثير ذلك على قراراتك، ثم يأتي التحكم الذاتي: وهو القدرة على ضبط ردود الفعل والانفعالات، أي أن تتعلم كيف تؤجل ردّك حتى تهدأ وتفكر، وأن تجعل العقل قائداً للقلب وليس العكس، ثم المستوى الثالث: وهو التحفيز الذاتي، وهنا تترجم المشاعر إلى طاقة إيجابية، لأن الذكي عاطفياً لا ينتظر من يحمّسه؛ بل يجد في داخله أسباب الاستمرار والتقدم، ثم مستوى التعاطف، وهو جوهر الذكاء العاطفي، أن ترى بعين الآخر وتفكر من منظوره، وهو ما يمكن الذكي عاطفياً من بناء الثقة وكسب القلوب، ثم المستوى الخامس: وهو اتقان المهارات الاجتماعية، كمهارات التواصل والتعاون وإدارة الخلافات والإقناع، مما يؤدي إلى التواصل الفعّال وبناء الثقة، التي تفتح الأبواب وتلهم النفوس.
تشير الدراسات القيادية إلى أن أكثر من 80 % من أسباب النجاح الوظيفي ترتبط بالذكاء العاطفي، وليس بالذكاء العقلي! كما أن متوسط دخل الأشخاص الذين يمارسون الذكاء العاطفي أعلى ممن لديهم مستوى منخفض، وأن نحو 90 % من كبار القادة يعتقد أن لديهم ذكاءً عاطفياً أعلى من المتوسط، وانظر إلى الكثير من المنظمات أو العوائل حولك، لتجد أن هناك قائدا يسمع أكثر مما يتكلم، ويفهم قبل أن يحكم، ويحوّل الخلاف إلى توافق.
الذكاء العاطفي ليس مجرد مهارة مهنية عادية، بل فلسفة إنسانية تقوم على الوعي والنضج والتفهم، فكن ممن يتقنه لا لتربح المواقف فحسب، بل لتحصد القلوب أولاً.

