يحيى الامير
في ما يبدو أنه عالم عصيّ على التنظيم والضبط والإدارة، إلا أن في السعودية تجربة مختلفة ونوعية للغاية في ضبط وإدارة الفضاء الإعلامي الرقمي، الذي ومنذ قرابة عقدين من الزمن وهو يشهد تحولات وانفجارات كبرى عجزت أمامها التنظيمات، أو حدث ذلك التداخل الإشكالي بين ما هو ضبط وتنظيم وبين ما قد يُرى أنه تقييد لحريات الرأي.
منذ منتصف العقد الأول في الألفية الجديدة شهدت المنطقة العربية تحديداً أسوأ تجربة لواقع وأداء وتوظيف الإعلام الرقمي، لقد كان المنصة الأولى للتطرف والإرهاب والآراء المتشددة التي تنشر الكراهية وتقسم المجتمعات وتسعى لتقويض منطق وشخصية الدولة، بل مثلت بعض تلك المنصات دوائر اتصال وتفاعل بين المتطرفين لحشد التأييد وتنظيم الحملات المتطرفة، في واحدة من اسوأ الفترات التي ربما عاشتها المنطقة على الإطلاق.
العام ٢٠١١ كان الإعلام الرقمي أكبر وأهم الأدوات التي استُخدمت للحشد للفوضى والمظاهرات التي عمّت كثيراً من العواصم العربية وما زالت آثارها قائمة إلى اليوم.
مع التحولات الكبرى التي يشهدها الإعلام الرقمي ومع ظهور منصات لم تعد تعتمد على اللغة/الكتابة، بل على الصورة مما وسّع دائرة المستخدمين بشكل جنوني وطاغٍ، (الكتابة تحتاج إلى حد أدنى من الأدوات والفهم، أما الصورة فهي لا تحتاج إلى أية أدوات). عند هذه النقطة حدث التحول الكبير الذي وسع للغاية دائرة المستخدمين ودائرة المستهلكين، وحين تحولت تلك المنصات إلى وسائل اتصال اكتسبت بذلك مكانة أكبر لدى المستخدمين وأصبحت أكثر أهمية في حياتهم، الأمر الذي يجعل المجتمع أكثر تعرضاً ومشاهدة واحتكاكاً بما يُنشر على هذه المنصات.
مشاهير الإعلام الرقمي هم في الواقع ليسوا مؤثرين، والوصف الأنسب أنهم مشاهير ويحظون بمشاهدات عالية، يعود ذلك في ما يتعلق بهم لأسباب وظروف ومصادفات تختلف من شخص لآخر، ويعود ذلك في ما يتعلق بالمجتمع إلى أهمية وحيوية هذه المنصات في حياتهم، وإلى ما يمكن وصفه بظاهرة: الاستهلاك الواسع للمحتوى، الذي يعود إلى سهولة عملية الاستهلاك وتوفرها وعدم احتياجها إلى أية مهارات.
هنا نجد أنفسنا أمام واقع تفاعل اجتماعي بين طرفين مجتمعيين بعيداً عن المؤسسة. وفي ظل الدولة فإنه لا يمكن وجود أي نشاط تفاعلي بين أي أطراف في المجتمع لا تديره مؤسسات الدولة، لأن ذلك مؤدّ بطبيعة الحال إلى خلل وصدام وفوضى. فمن هو المرسل أساساً في تلك المنصات؟ وما قدراته؟ وما مؤهلاته؟ وما محتواه؟ وظيفة مؤسسات الدولة تكمن في ضبط المرسل لا المستقبل (الدولة لا تعاقب مثلاً من يشتري بضاعة مغشوشة، لكنّها بالتأكيد تضبط وتعاقب من عرض وباع تلك البضاعة).
لكن ما الفوضى التي ستحدث من بقاء الإعلام الرقمي والسوشل ميديا بلا إدارة؟ صحيح أن تصوير وإنتاج أي محتوى ونشره في حساب صاحبه على منصات التواصل الاجتماعي هي ممارسة فردية؛ لكنها ممارسة فردية ذات أثر اجتماعي، لأنها غالباً ذات مضمون اجتماعي ومن خلال شخصيات ذات انتماء اجتماعي وتتحرك في الفضاء الاجتماعي ذاته، وبالتالي فنحن أمام منظومة تفاعل اجتماعي متكاملة، يجب على المؤسسة الرسمية هنا أن تتدخل لإدارة هذه المنظومة وتفاعلاتها. (من المستحيل أن تتخيل حركة المرور والسير في الرياض دون إدارة وضبط من المؤسسة الرسمية).
لقد سمحت الأعوام الماضية للهيئة العامة لتنظيم الإعلام أن ترصد وتوثّق بشكل واسع ما الذي يحدث في فضاء الإعلام الرقمي الفردي في السعودية، وفي الواقع أنه يعجّ بالمئات من المشاهير وذوي المحتوى الكثيف الذين يحتوي إنتاج كثير منهم على مضامين وأفكار وسلوكيات وقيم ومعانٍ ضارة ومقيتة ومربكة، وتعكس واقعاً مضطرباً وتثير كثيراً من الامتعاض المجتمعي، وأمثلة ذلك لا يمكن حصرها؛ استخدام الأطفال في الإعلانات التجارية ما يخالف قوانين حماية الطفل، استخدام الآباء وكبار السن في الإعلانات، التباهي بالعاملات المنزليات، استخدام القُصّر كمحتوى، إثارة الجدل الاجتماعي عبر قضايا خلافية، تحويل الأسرة والعلاقات الزوجية والعائلية إلى محتوى، تقديم وبث آراء فردية في قضايا كالحريات والعمل والحجاب، تأجيج النقاش حول قضاياها تجاوزها المجتمع.
هذه مرحلة محورية في مسيرة الإعلام السعودي، إذ تقود الوزارة من خلال الهيئة مشروعاً حضارياً مدنياً لا يتعارض على الإطلاق مع حريات الرأي، ولا مع غيرها من الحقوق العامة المكفولة للجميع، بل هو من حق المجتمع على مؤسسات الدولة أن تدير وتنظم هذا الفضاء، من خلال منظومة تشريعية ورقابية واضحة ومحددة وصارمة، تنشد هدفاً واحداً هو حماية السلم الاجتماعي من أي تشويش عليه من خلال ما يصوره وينتجه الأفراد على حساباتهم في منصات التواصل الاجتماعي.
دائماً ما كانت وزارة الإعلام وزارة مؤسسات، تدير وتوجّه الموسسات الإعلامية وفق سياسات وتنظيمات واضحة، بدأت التحديات في كل العالم يوم أن أصبح الإعلام ممارسة فردية، ووقفت كثير من وزارات وأجهزة الإعلام حول العالم غير قادرة على ضبط هذا الفضاء، أو أنها اصطدمت بقوانين وأنظمة أخرى، وهو ما لم يحدث في التجربة السعودية على الإطلاق، إذ تقود وزارة الإعلام من خلال الهيئة العامة لتنظم الإعلام أكبر عملية ضبط ورقابة وإدارة لهذا الفضاء الإلكتروني الشاسع، وبما يصنع فضاء اتصالياً أكثر تحضّراً ومدنية ويوفر حماية أمثل للسلم الاجتماعي والوعي العام.

