: آخر تحديث

مراجعة لدور المكاتب الاستشارية في السعودية من استيراد الفكر إلى توطين المعرفة

1
1
1

منيرة أحمد الغامدي

في عالمٍ يتكاثر فيه الخبراء يبقى أخطر ما قد تخسره المؤسسات هو فكرها الخاص. وحين يُستبدل السؤال بالتوصية ويتحوّل التقرير إلى بديل عن التفكير تضعف قدرة القرار على أن يكون نابعًا من واقعه لا من قالبٍ جاهزٍ صُنع في مكانٍ آخر وبثقافة مختلفة. لم تعد المكاتب الاستشارية مجرّد أدوات مساندة لصنع القرار بل أصبحت في كثير من الأحيان جزءًا من صناعته حتى غدت التقارير والعروض التقديمية الاستشارية حاضرة في أغلب مراحل العمل الحكومي والاقتصادي. غير أن هذا الحضور المكثّف يطرح سؤالًا مهمًا وهو هل لا يزال القرار الوطني يُبنى داخل المؤسسة الوطنية أم بات يُستورد من الخارج في قالب جاهز يَعدُ بالكفاءة والسرعة؟

من الإنصاف القول إن المكاتب الاستشارية ساهمت في تسريع التحول الوطني وأدخلت أدوات حديثة في التخطيط وإدارة الأداء وبناء المؤشرات، فقد كانت الاستشارات أحد محرّكات الرؤية في سنواتها الأولى إذ وفّرت معرفة عالمية متخصصة في القطاعات الجديدة التي بدأت تنمو بسرعة، لكن هذا النجاح نفسه أفرز تحديًا موازياً فكلما كلما زاد الاعتماد على الخارج تقلّصت المساحة التي يفترض أن يشغلها الفكر والرأي المحلي والكوادر الوطنية في التحليل والتقييم وصناعة القرار.

الفكر المؤسسي لا يُستورد جاهزًا بل يُبنى عبر التجربة والتراكم، والمكتب الاستشاري مهما بلغت كفاءته سيظل يعمل وفق نموذج لا يعكس بالضرورة تفاصيل الواقع السعودي ولا تفصيلاته الثقافية والإدارية. من هنا تنشأ الحاجة إلى مرحلة جديدة أكثر نضجًا تُعيد تعريف العلاقة بين المؤسسات الوطنية والمكاتب والشركات الاستشارية لتتحول من علاقة استهلاك إلى شراكة في بناء المعرفة وتوطينها.

ومن المهم إدراك أن المكاتب الاستشارية ومهما كانت واجهتها الفكرية تظل مؤسساتٍ تجاريةً في جوهرها تقوم فلسفتها على الربحية واستدامة العقود. فهي تسعى إلى تمديد وجودها داخل المؤسسة عبر مشاريع متتابعة وتنتج حلولًا تفتح المجال لمزيد من العقود المستقبلية أكثر من حرصها على تمكين المؤسسة من الاكتفاء الذاتي. وهنا تكمن المفارقة فبينما تبحث الجهة الحكومية عن تطوير قدراتها يبحث المكتب عن تجديد فرصه.

وفي حالات كثيرة تتنقّل المكاتب بين الجهات الحكومية نفسها فتجمع المدخلات من هنا والمخرجات من هناك لتكوّن خريطة واسعة للأنظمة والإجراءات أكثر مما تمتلكه تلك الجهات مجتمعة. ثم يغادر المستشارون وهم يحملون معهم تفاصيل دقيقة عن البيانات الداخلية وآليات العمل بل ويقوم بعضهم بترشيح من يخلفهم ليضمن بقاءهم في الصورة، وبهذه الممارسة يتحوّل الاستشاري من زائر مؤقت إلى مقيمٍ دائم ومن مساعدٍ في القرار إلى طرفٍ مؤثّر فيه فتتآكل استقلالية المؤسسة تدريجيًا ويُستبدل الاعتماد على التفكير الوطني بالاعتماد على وجود خارجي مستمر.

لكن المسؤولية لا تقع على المكاتب وحدها بل أيضًا على كفاءة الفريق الداخلي الذي يتعامل معها، فالفريق الوطني هو الضمان الحقيقي لنجاح أي تجربة استشارية. إن امتلك هذا الفريق القدرة على التحليل والمناقشة والنقد تحوّلت العلاقة إلى شراكة معرفية حقيقية، أما حين يكتفي بدور المتلقي تصبح الاستشارة وصاية فكرية لا مشاركة مهنية. ولهذا، فإن بناء كوادر قادرة على فهم منهجيات العمل الاستشاري وتقييمها وتمييز ما يناسب البيئة المحلية هو أساس أي استقلال معرفي طويل الأمد.

لقد بدأت بعض الجهات السعودية بالفعل بإنشاء وحدات سياسات وبحوث داخلية تُشكّل الذاكرة المؤسسية التي تحفظ المعرفة بعد انتهاء العقود، لكن ما نحتاجه الآن هو الانتقال إلى مستوى أكثر إلزامًا عبر خطة وطنية موحدة لنقل المعرفة وتوطينها بسرعة داخل كل جهة تتعامل مع المكاتب الاستشارية.

ينبغي أن تُدرج بنود واضحة في العقود «تلزم» الشركات بتسليم الأدوات والمنهجيات وتدريب فرق العمل ومشاركة الملكية الفكرية للمخرجات خلال فترة زمنية محددة، فالتقرير لا يكتسب قيمته من غلافه أو تنسيقه بل من قدرته على أن يُترجم إلى مهارة داخلية تستمر بعد رحيل الاستشاري. كما أن التجربة الاستشارية تحتاج إلى مقاييس وطنية للتقييم تتجاوز الشكل إلى الجوهر من خلال مقاييس تركز على مدى تمكين الكوادر المحلية ونسبة المعرفة التي انتقلت فعليًا إلى المؤسسة والأثر المتحقق بعد التنفيذ، فالمعايير الدولية وحدها لا تكفي لتقييم مشاريعٍ تُدار في بيئة لها خصوصية تشريعية وثقافية واقتصادية مثل السعودية.

وهنا ودون افراط في المركزية يبرز الدور التكاملي لكل من وزارة المالية وهيئة كفاءة الإنفاق والمشروعات الحكومية ومركز أداء في تنظيم العلاقة مع المكاتب الاستشارية لتطوير إطار وطني لحوكمة العلاقة. وهذا الإطار يجب أن يشمل تحديد الحاجة الفعلية قبل التعاقد وضوابط تضارب المصالح ومؤشرات تقيس العائد التنموي مقابل الكلفة المالية. القيمة الحقيقية لأي استشارة لا تُقاس بحجم الإنفاق أو عدد الشرائح في العروض او حتى أسماء عالمية لشركات استشارية تكررت بل بما تبقى من اثر إيجابي داخل المؤسسة بعد انتهاء المشروع يعود على الأداء العام.

وفي هذا الجانب نجد تجارب دولية ملهمة ففي المملكة المتحدة، أطلقت الحكومة عام 2024 حزمة إصلاحات جديدة للحد من الإنفاق على الاستشارات تستهدف توفير أكثر من مليار جنيه إسترليني بحلول 2026 مع إلزام الجهات بتبرير الحاجة قبل التعاقد وموافقة وزارية مسبقة على العقود الكبيرة. كما طوّرت إطارًا يُعرف باسم (Management Consultancy Framework 4 (MCF4 يحدد الشروط والمعايير والموردين بدقة لضمان الشفافية والكفاءة.

أما سنغافورة فتبنّت منذ التسعينيات برنامجًا رسميًا لنقل القدرات يُعرف بـ (Capability Transfer Programme (CTP، يلزم الشركات الأجنبية بتدريب الكوادر المحلية ونقل منهجياتها خلال فترة محددة لتتحول المعرفة من سلعة مستوردة إلى أصل وطني مستدام وبفضل ذلك أصبحت سنغافورة اليوم تصدّر استشاراتها إلى دول أخرى عبر فرق وطنية مدرّبة.

هذه التجارب تثبت أن الدول المتقدمة لا تُقصي الشركات الاستشارية بل تُحكم العلاقة معها وتحوّلها إلى أداة تمكين محلية، فالحكومات الذكية لا تشتري الأفكار الجاهزة بل تشتري الفرصة لتعلّم صناعتها، وهذا هو جوهر السيادة المعرفية وهو أن تمتلك الدولة أدوات التفكير والتحليل والتقييم بنفسها فلا تستأجر عقلها من الخارج بل تبنيه وتمتلكه من الداخل.

وفي المدى الأبعد تمتلك المملكة كل المقومات لتتحول من أكبر سوقٍ للاستشارات في المنطقة إلى أكبر منتجٍ لها من خلال مكاتب وطنية تجمع بين الحس الثقافي المحلي والمنهجية العالمية وتقدّم للعالم نموذجًا سعوديًا جديدًا في التفكير التطبيقي وصناعة الحلول، وعندها لن يكون الاستشاري الأجنبي معيارًا للخبرة بل شريكًا يتعلم من التجربة السعودية في إدارة التحول والتنمية.

إن المستقبل لا يرفض المكاتب الاستشارية المتميزة بل يعيد تعريف العلاقة معها والمطلوب ليس إقصاءها بل ضبطها ضمن ميزان المصلحة الوطنية من خلال الاستفادة من خبراتها العالمية مع ترسيخ كفاءات محلية قادرة على النقد والمراجعة والإبداع فالمجتمع الذي يسعى إلى التنمية المستدامة لا يكتفي بشراء الخبرة بل يصنعها ويصدرها.

الخلل والخطر هو حين تمرّ الجهة ويتم تعريفها من خلال المستشار والمكتب الاستشاري فالمعرفة التي لا تُحوّل إلى ملكية داخلية تبقى قيد الاستعارة. إن الاستقلال المؤسسي يبدأ حين تدرك الجهات أن دور المكتب الاستشاري ينتهي عند نقل المعرفة ضمن خطة نقل مدروسة لا احتكارها وأن حماية القرار الوطني لا تكون بالسرية فقط بل بالوعي المعرفي، وحين يتحول الاعتماد على الاستشارة إلى وسيلة لبناء فكر وطني متجدد يصبح المكتب شريكًا «مرحليا» في رحلة الوعي لا بديلاً عن التفكير والفكر الوطني، أما حين يختفي السؤال خلف التقرير المنمق فسنكتشف أن أثمن ما خسرناه ليس المال بل القدرة على إنتاج الفكرة المحلية نفسها وعلى تحجيم العقل الوطني وعلى الاتكالية والاعتمادية المزمنة التي لن تقبل المعالجة لو طال الأمد والمعاناة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد