: آخر تحديث

من مهابة القمة إلى مهاوي السفح

1
1
1

تفوّقت الدهشة لدى كثيرين من واقعة عملية السطو غير المسبوقة في الوقائع الفرنسية المستغربة على سرقة من متحف «اللوفر»، جوهرة متاحف فرنسا، ونكاد نقول متاحف العالم، على تلك الدهشة التي ارتسمت معالمها أمامنا ونحن نتابع المشهد الأكثر إهانة، مرتبطة بالرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي. والدهشة «الساركوزية» متصلة بتلك التي ارتسمت معالمها في شخص رئيس المصرف المركزي للبنان رياض سلامة، الذي نال مجداً إعلامياً خلال سنوات ترؤسه المصرف. ثم بكشْف متدرج للإضبارات والعمليات المالية التي لا تُجيز لرئيس مصرف مركزي أن يكون قريباً منها، جرى حذْف الرجل بوصفه مرشَّحاً محتمَلاً للرئاسة. ثم يوماً بعد آخر تكشفت العمليات المستورة، وبات الرجل الذي كان نجماً في وسائل الإعلام العربية، وبعض مثيلاتها الأجنبية، متهَماً يجري التحقيق معه، ثم يودَع السجن ولا يفرَج عنه إلا بعدما أوجب الوضع الصحي ذلك، ومقابل كفالة بالملايين، هي الأعلى في تاريخ الكفالات، والغرض منها ألا يغادر لبنان ويلجأ إلى دولة تحميه.وهنا التساؤل: كان يمكن أن يترأس الجمهورية وعلى نحو رئيس المصرف المركزي اللبناني إلياس سركيس، الذي حظي بما يجمع أعضاء البرلمان اللبناني على ترئيسه خلفاً للرئيس سليمان فرنجية المختصَرة ولايته بضعة أسابيع من دون أن يسعى إلى ذلك، لماذا يفعل لنفسه ما فعله، وما قيمة الملايين بل المليارات إذا كانت بين يديه لبعض الوقت ثم تتطاير في الهواء وهو في طريقه إلى السجن، فيما صنوه السابق في ترؤس المصرف المركزي ارتضى حياة على درجة من البساطة ودرجات من كرامة النفس، واكتفى بإقامة في غرفة داخل فندق ذكَّرتْنا بغرفة المرتضي الآخر للبساطة والكرامة ريمون إده في منفاه الاختياري باريس حتى وفاته.

وبالعودة إلى الحالة الساركوزية يتساءل المرء: لقد وصل الرجل إلى قمة الحُكم، وهذه القمة بالغة الحساسية. الحفاظ عليها واجب، والنزول منها يتصل بمَن تربَّع سنوات عليها، بمعنى أن عليه التنبه وحسبان ما قد تكون العاقبة إبهاتاً لسنوات مجده زمن التربع على القمة، وحديثاً ما هو أكثر من الإبهات، أي تكبيل اليدين وفْق مقتضيات طقوس السجَّانين للمسجونين. حدَث ذلك في وضح النهار لاثنين كانا في القمة، ثم هويا بِفعل من جانب كل منهما إلى الهاوية، أكثرها مدعاة للاستغراب نيكولا ساركوزي الذي كان لسنوات رئيساً لفرنسا، شريكاً في صناعة القرار الدولي، يستقبل في قصر «الإليزيه» كبار الشأن من الحكام والزعامات الدولية والعربية والإسلامية.

في جديد سجل قصر «الإليزيه» ملامح تقليد جديد، تمثَّل في أن الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون استقبل ساركوزي قبْل أن يتم سوْقه مخفوراً إلى السجن، واصفاً هذا اللقاء المستهدِف «كريم قوم أو رئاسة أذلَّ نفسه» بأنه «طبيعي من الناحية الإنسانية». كما في السياق نفسه يعلن وزير العدل في العهد الماكروني على الملأ أنه سيزوره في السجن. ولكن الرئيس السجين لم يحظَ بما كان يفترَض حصول بعض التميز له، ذلك أن حاله في الزنزانة المعزولة كانت من حال اثنين من النزلاء الذائعي الثورية، هما كارلوس الذي سُجن بوصفه إرهابياً بتوصيف إعلامي له بأنه «كارلوس الثعلب»، والزعيم الشعبي في بنما نورييغا. لكن التحسينات التي جرت لاحقاً ﻟ«عالم الزنازين» حققت لساركوزي الحمَّام الخاص، والتلفزيون الذي سيبث بين الحين والآخر الكثير عن واقعته التي بسببها كانت المحاكمة، فإصدار الحُكم بالسجن، فالانتقال من البيت الفخم في أهم جادات باريس (الجادة 16)، مصطحباً لما يُخفف من وطأة السجن معنوياً، لأنه في حال مالية مستقرة، من مكتبته كتاب «الكونت دو مونت كريستو» من تأليف ألكسندر دوما، ربما لأنه، كما بطل الكتاب، يرى نفسه مسجوناً بدافع الانتقام ممن خانوه، وهؤلاء ربما الذين من وراء الظهر، كما التوصيف السائد، أبرموا باسمه صفقة مع العقيد معمر القذَّافي الذي كان كثير السخاء إزاء تطلعات دولية له، وأن هؤلاء احتفظوا بالكثير من المال الذي نالوه، وأعطوا المتبقي لحزب رئيسهم ساركوزي «الاتحاد من أجْل حركة شعبية». ومع أن جنيْ كبار القوم من رؤساء العالم من أموال المكتنزين أمر مألوف، فإن إخراج الصفقة من السر إلى العلن تودي بالذين اكتنزوا إلى التهلكة، وبالذين حققوا سباق الصفقة المالية وتحت مغريات سياسية كثيرة إلى السجن، على نحو ما أصاب ساركوزي وكثيرين آخرين، من بينهم الرئيس السابق للمصرف المركزي اللبناني رياض سلامة.

وما هو أكثر إيلاماً أن ساركوزي الذي رافقتْه زوجته يداً بيد إلى السجن، وجد نفسه وهو في طريقه إلى زنزانته المريحة نسبياً مئات النزلاء والسجناء يرمونه بشتى أنواع الاتهامات، ويسخرون منه بعبارات تنمُّرية طالما برع الفرنسيون في صياغاتها.

كان حرياً بالرئيس ساركوزي الذي عاش 6 سنوات رئيساً في القمة، وانتهى سجيناً في السفح، أن يأخذ في الاعتبار خلاصة رؤى العلَّامة ابن خلدون في الحُكْم والحكام، وهي أن السُّلطة ليست في أهمية منالها، وإنما في المحافظة عليها ومغادرتها كريم النفس. ولو فعل ساركوزي ما فعله الجنرال ديغول لكان مكانه التاريخ وليست الزنزانة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد