: آخر تحديث

ما أحد طلب رأيك

4
3
2

ليلى أمين السيف

أخبرنا العلماء أن الإنسان كائن ناطق، لكنهم لم يحددوا عدد الكلمات المسموح بها يوميًا، فبعض الناس يبدو وكأنهم في سباق ماراثوني مع ألسنتهم.

فهناك فئة من الناس تعتقد أن دورها في الحياة هو أن تتحول إلى مكتب تحقيقات شعبي متنقل، يفتح ملفًا جديدًا مع كل نفس تأخذه. يحب أحدهم أن يُبدي رأيه في كل شيء، دون استئذان، كأنه مُكلف من الأمم المتحدة بمراقبة سكان الحي:

زواجك، وزنك، عمرك، شكلك، راتبك، لون حذائك، نوع أكلك، متى تتزوج، متى تُطلق، متى تخلف، متى تكف عن الخلفة! ليش شكلك أتغير؟ هذا مكياج ولا عملية تجميل؟ وليش سمنت وليش نحفت؟ وقائمة الأسئلة لا تنتهي.. وكأن حياتك وثائقي مفتوح، وهم لجنة المراقبة العُليا!

ولمّا تسأله: «مين طلب منك رأيك الكريم؟»، يفتح عينيه باستغراب، وكأنك حرّقت له تراث عائلته!

يا ناس يا هو.. من مطالبنا البشرية المتواضعة جداً، البريئة جداً، التي لا تقترب من الترف ولا تدنو من الوقاحة: أن تُتركنا وشأننا. ونحب أن نقول لهؤلاء باختصار مفيد وبأسلوب لبق مغلف بالتهذيب المسموم:

«وش دخلك؟ محدش طلب رأيك!»

بكل صراحة وبساطة ولباقة ووقاحة نحن نُطالب ألا يتطفّل أحدٌ على شؤوننا كما يتطفّل الذباب على طبق مكشوف.

لكن يبدو أن بيننا من لا يشعر بوجوده إلا إذا تَسلَّق جدار خصوصيات الآخرين، وتَرَصَّد حياتهم بمنظار الفضول.

أيها الكائن المتطفل صدقني أن حياتك بتكون أجمل.. وأهدأ.. وأقل تصادمًا.. لما توقف تعيش دور المراقب الرسمي لقرارات الآخرين وتصرفاتهم وطريقتهم في معيشتهم.

خلك في حالك، والنصيحة اللي تطلع بدون طلب؟

رجّعها مخزنة.. يمكن تحتاجها لنفسك.

لكن مهلاً، تعالوا نُفرّق الأمور.

إن كان النصح من باب الدين، والنية خالصة، والأسلوب حكيم.. فالدين النصيحة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:

«الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم» [رواه مسلم].

فنحن أمةٌ قامت على التناصح، وشُرِّفنا أن نكون ممن يذكّرون بالخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر.

لكن في خضمّ هذا الفضل العظيم، تسلّل علينا قومٌ لا يُفرّقون بين النصيحة والفضول الوقح، ولا بين الغيرة على الدين وحب التدخّل في التفاصيل التافهة.

فهم يرون ان من حقهم أن يُقحموا أنفسهم في طريقة أكلك، وينتقدوا حجم طبقك، ويهتموا بكمية البهارات في رزّك، وينظروا في ماركة ساعتك، وسعر عباءتك، وأوقات خروجك ودخولك، ونبرة صوتك حين تتكلم! بل إنهم يعرفون نيتك فيما تحب او تكره.

قال صلى الله عليه وسلم: «من حسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه» [رواه الترمذي].

أليس هذا واضحًا كالشمس؟

دع ما لا يعنيك، وركّز على ما يعنيك.

فإن لم يكن قولك ينفع، وسكوتك لا يضر، فالسكوت أبلغ من أي بيان.

ثم هناك قاعدة ذهبية لا يُدركها المتطفّلون:

من دق الباب.. سمع الجواب.

وإذا فتحت فمك لتتدخل في شؤون الآخرين، فكن مستعدًا أن يُفتح عليك الباب بالمِكنسة، أو الرد الذي لا يعجبك.

فلا تدخل بيت الناس من النافذة ثم تبكي حين تُلقى عليك الأحذية!

قال الحكماء: «ادخل بيت الناس أعمى واخرج أبكم»،

وأنت حين تغوص في خصوصيات الناس، وتضع أنفك فيما لا يعنيك، فأنت تُبيح لهم – بقوة المنطق لا قلة الأدب – أن ينبشوا في حياتك، وأن يردوا بالمثل، وربما أسوأ.

ولا تقل بعدها «هذا ليس من الدين»، لأن ما فعلته أنت أولًا.. ليس من الدين أيضًا!

والأمثال لا ترحم:

«اللي ما يخصّك لا تقرب صوبه».

«من تدخل فيما لا يعنيه.. لقي ما لا يُرضيه».

ويا صديقي الفضولي.. خليك في حالك، الله يرضى عليك، وعنا.

وبكل حب وأدب وصرامة أقول لك.. حتى تُحترم.. احترم نفسك أولاً.

فلا تكن ممن يوزعون آراءهم كمن يوزع مناديل مستعملة، ولا تدخل بيت أحد برأي لم يُدعك إليه.

احتفظ برأيك كما تحتفظ بدفتر شيكاتك: لا تعطيه إلا عند الضرورة، وبطلب صريح.

واذكر دومًا:

إن لم يكن نصحك دينًا، فالسكوت هو الدين.

وإن لم يُطلب رأيك، فلا تغضب إن رُد عليك بما لا يرضيك.

وإن أردت أن يحترمك الناس، فاستوعب هذه المعادلة البسيطة والعميقة:

اترك الناس في حالهم.. فلست عليهم بوكيل، ولا هم بحاجة إلى وصايتك العاطفية أو الأخلاقية.

فمن كمال الأدب وسمو النفس، أن تنشغل بإصلاح عيوبك قبل أن تُحصي على غيرك زلاته.

اشتغل بنفسك.. والله يتولاك.

ومن حسن الخلق ألا تسأل عن شيء أخفاه عنك صاحبه، فإن لم يظهره لك باختياره، فالغالب أنه لا يعنيك، ولا يرغب في أن يعنيك.

فلا تُحرجه بفضولك، كي لا يُحرجك بردٍّ قد لا يعجبك.

فليس من اللطف أن تُطفئ نور العلاقة بالتطفّل، ولا من الحكمة أن تحفر في حياة غيرك بحثًا عن شقوق، بينما بيتك في حاجة إلى ترميم.

اجعل شعارك:

«ما دام لم يُفتح لي الباب، فلن أتسلّق السور».

وبهكذا سلوك.. تحفظ كرامتك، وتحمي علاقتك، وتسمو بنفسك.

وفي آخر الحديث، وبعد أن قيل ما قيل وجرى ما جرى..

تذكّر أن البساطة في التعامل، والذوق في الصمت، والاحترام في التراجع عن الفضول، كلّها مفاتيح لحياة أكثر راحة وكرامة.

وإليك ثلاث نصائح ذهبية، تُغنيك عن كثير من المعارك، وتُريح بالك من كثير من العناء:

1- لا تُكثر اللوم، فكلّنا نخطئ.

2 - لا تنتقد، فليس كل ما تراه يحتاج رأيك.

3 - لا تتدخل في خصوصيات غيرك، ولا تُعطِ رأيك لمن لم يطلبه.

اجعل هذه الثلاثة قانونك الداخلي..

وستُدهشك الحياة حين تصبح أكثر هدوءًا، وأقل توترًا، وأغزر احترامًا.

** **

- كاتبة يمنية مقيمة في السويد


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد