تغريد إبراهيم الطاسان
منذ أن عرف الإنسان البطولة، ظل البطل هو ذاك الذي يلهب المشاعر في الميادين المفتوحة: فارس يمتطي صهوة جواده، أو لاعب يلهب الملعب بركلاته، أو قائد يغيّر مصائر الشعوب.
غير أن زمننا المعاصر يُعلن -عبر الشاشات الصغيرة- عن ميلاد نوع جديد من الأبطال: أبطال الألعاب الإلكترونية، الذين يصنعون جمهورهم من مقاعد افتراضية، ويهتفون لهم ملايين الصغار والشباب، وكأنهم القوة الضاربة القادمة في معادلة المجد، فالمجتمع في جوهره، هو من يقرّر من يمنحهم صفة البطولة.
لم يعد البطل محصورًا في جسد قوي أو قدم تُسجّل الأهداف، بل صار البطل في نظر جيلٍ جديد هو ذاك الذي يتقن السيطرة على عالم افتراضي، يحقق الانتصارات عبر ذكاء رقمي وردود فعل خاطفة.
مشهد الاحتفالات بأبطال الألعاب الإلكترونية لم يعد هامشيًا: منصات مزدحمة، جماهير ترفع الشعارات، وأسماء تتردد كأنها جزء من وجدان الجيل.
والحراك العالمي الذي نراه اليوم في الرياض من خلال بطولة كأس العالم للألعاب الإلكترونية يعكس هذا التحول بوضوح، إذ اجتمع العالم هنا ليشهد كيف تصنع الشاشات أبطالًا حقيقيين في نظر جماهيرهم، وكيف يتحول الترفيه إلى صناعة كبرى تحرك الاقتصاد وتؤثر في الثقافة.
هنا، يطل السؤال الفلسفي: هل نحن من نصنع البطل، أم أن حاجتنا الجمعية إلى «رمز» هي التي تدفعنا للاعتراف بأي صورة بطولية جديدة مهما اختلفت ساحتها؟
كرة القدم، منذ أكثر من قرن، شكّلت المسرح الأكبر للبطولة الشعبية، فالملايين تابعوا الأساطير من مارادونا وبيليه، إلى ميسي ورونالدو، حيث كان الملعب مرآة للمهارة الإنسانية في أقصى تجلياتها.
لكن مع الألعاب الإلكترونية، صار المسرح شاشةً مضاءة بالرموز الرقمية، يتابعها جمهور أكثر شبابًا، يتفاعل معها بصدق لا يقل عن تفاعله مع هدف في الدقيقة الأخيرة.
هل هذا يعني أن بطولة لاعبي القدم ستتلاشى؟ ربما لا تختفي، لكنها تواجه منافسًا جادًا يسحب البساط من تحتها جزئيًا.
الأجيال الجديدة قد تجد في الأبطال الرقميين ما يوازي حماس الهدف الكروي، خصوصًا أن هذه البطولات صارت تتيح للشاب أن يتخيّل نفسه لاعبًا، لا مجرد مشجع على المدرجات.
البطولة لم تكن يومًا في «المكان»، بل في «المعنى». حين كان الفارس بطلًا، لم يكن لركوبه الحصان فقط، بل لأنه جسّد قيم الشجاعة والقيادة. حين صار لاعب الكرة بطلًا، لم يكن لأهدافه وحدها، بل لأنه منح الجماعة فرحة مشتركة.
واليوم، حين يصعد بطل الألعاب الإلكترونية، فهو يرمز إلى عصر التكنولوجيا، وسرعة الإيقاع، والسيطرة على التعقيد الرقمي.
بهذا المعنى، البطل ليس مجرد فرد، بل صورة مكثفة لما يراه المجتمع قوةً تستحق التصفيق. القوة لم تعد في العضلات وحدها، بل في الذكاء، البراعة الذهنية، وقدرة التحكّم في عالم افتراضي يوازي الواقع.
لكن السؤال المقلق للكبار: هل نحن نحتفل بما هو جوهري، أم بما هو ظلّ على شاشة؟ هل البطولة الرقمية قادرة على أن تعطي للأجيال إحساسًا بالقوة والقدوة، كما فعلت الملاعب؟ أم أنها مجرد نشوة آنية، تتلاشى مع إطفاء الأجهزة؟
ربما تكمن الإجابة في طبيعة التحولات الاجتماعية. نحن في عصر لا يفصل بين الواقعي والافتراضي، حيث العلاقات، النجاحات، وحتى الثروات تُبنى من فضاءات رقمية. وعليه، فإن بطولة لاعب الألعاب الإلكترونية ليست «ظلًا» بالمعنى التقليدي، بل انعكاس لحقيقة جديدة باتت تسيطر على وجدان الشباب.
لن تزول كرة القدم، لأنها مرتبطة بعاطفة جمعية ممتدة، وهي جزء من طقوس الهوية والانتماء. لكن ستشاركها البطولة الرقمية مكانتها، لتشكّل معًا مشهدًا متنوعًا للفرح الإنساني.
وربما سيكون البطل القادم في نظر المجتمع ليس لاعبًا في الملعب وحده، ولا متسابقًا على الشاشة فقط، بل إنسان قادر على الجمع بين اللياقة الجسدية والذكاء الرقمي، بين صلابة القدم ورشاقة الأصابع على لوحة التحكم.
الأبطال الجدد هم مرآة عصرهم. فإذا كان الماضي قد احتفى بمن صنع الأمجاد على التراب والعشب، فإن الحاضر يحتفي بمن يبدع في العوالم الإلكترونية.
وفي الحالتين، يبقى السؤال حيًا: هل نحن من يصنع الأبطال، أم أن حاجتنا للبطولة هي التي تصوغهم؟ في النهاية، البطولة ليست في «اللعبة» التي تُمارس، بل في المعنى الذي تحمله، وفي قدرة البطل على أن يمنح الجماعة لحظة فرح، وشعورًا بالقوة، وإحساسًا بأنهم معًا في ساحة واحدة، مهما اختلفت طبيعتها.