كان صباح الرابع والعشرين من أغسطس عام 79 ميلادي، يوماً عادياً في مدينة بومبي. كانت المدينة نابضة بالحياة؛ خبازون يعجنون، تجار يساومون، أطفال يركضون في الأزقة، ونساء يشعلن البخور عند مذابح منازلهن.
لكن بعد ساعات، ثار بركان فيزوف فغطى الرماد البركاني السماء والأرض، واختنقت أصوات المدينة إلى الأبد.
أرسل الإمبراطور تيتوس وفودًا للإغاثة إلى المدن المتضررة، بما في ذلك هيركولانيوم وبومبي، وأعطى توجيهات لتوفير الطعام والمأوى للناجين، وفرض رقابة على الأسعار لتجنب استغلال المأساة.
رغم هذه الجهود، فإن الطبيعة كانت أسرع وأكثر قسوة من قدرة البشر على التدخل.
من بين كل المدن التي ابتلعتها الكوارث عبر التاريخ، ظلت مدينة بومبي الإيطالية حالة فريدة؛ لأنها حُبست في لحظة واحدة من الزمن، محفوظة تحت طبقات الرماد. إلا أن ما نجا من بومبي في المخيال الشعبي ليس صورتها الحقيقية الكاملة، بل نسخة مشوهة تُروى بوصفها «مدينة الملذات التي عاقبتها الطبيعة».
لم يكن هذا الاختزال تلقائياً، فقد لعبت عوامل ثقافية وتاريخية دوراً في تكريسه.
حين بدأت الحفريات في القرن الثامن عشر، فوجئ الباحثون بكم كبير من الفنون والمنحوتات والجداريات والتمائم التي تصور أوضاعاً جريئة. هذه الصور كانت في الثقافة الرومانية القديمة جزءاً من الرموز الدينية أو الزخرفة العامة، لكنها صدمت الذوق الأوروبي المحافظ آنذاك.
تحولت الصدمة إلى مادة خصبة للأدب والفن، وأُعيد تأويل المدينة كلها عبر عدسة الأخلاق الفيكتورية، التي فضلت سردية «مدينة الفجور» على دراسة ميدانية وتاريخية جادة ومتعددة الأوجه.
الواقع الأثري يكشف أن بومبي لم تكن حفلة صاخبة مستمرة، بل ميناءً تجارياً مهماً، وملتقى ثقافات، وموطناً لطقوس دينية يومية. فيها اقتصاد متنوع، وبنية تحتية متطورة، ونظام اجتماعي معقد. وكانت - مع ذلك - مثل كل المدن، فيها مواقع للترفيه كالحانات والمسارح والأسواق. أما تصوير الأجساد فكان متركزاً في مذابح «اللاراريوم» (Lararium) حيث تُقدَّم القرابين للأرواح الحامية، وفقاً للمعتقدات الدينية السائدة.
إنه لمن غير المنصف أن تُروى بومبي اليوم على أنها عِبرة أخلاقية جاهزة، ويُتغَاضَى عن حكاية إنسانية لحضارة كاملة توقفت في منتصف الجملة.
من جهة أخرى، القراءة المنطقية الواعية تساعدنا على معرفة كيف تتشكل الأساطير حول المدن، وكيف تلون العدسات الثقافية رواياتنا عن الماضي.
من المهم أن نتعلم قراءة الأحداث في سياقاتها التاريخية والثقافية، لا أن نكتفي بالصور المكررة التي تُعيد إنتاج أحكام جاهزة. بومبي التي تُختزل اليوم في قصة عن «عاقبة الانحلال» هي في الواقع درس في هشاشة الحضارة، وقيمة التوثيق التاريخي، وخطورة إسقاط معايير الحاضر على الماضي. كما أن معايير الفضيلة والانحلال هي مفاهيم حديثة، لذا فإن إسقاطها على بومبي يشوه السياق التاريخي ويؤدي إلى أحكام مغلوطة.
مسؤوليتنا، ونحن نروي قصتها، ألا نسمح للأسطورة أن تطمس الحقيقة. فالماضي هو مستودع الذاكرة البشرية، وعلينا أن نقرأه دائماً بعين ناقدة، وقلب كبير، وعقل مستعد لاحترام تاريخ الأمم الأخرى.