: آخر تحديث

الحرب.. إعلان فشل

1
1
1

«الحرب.. إعلان فشل» وضجت قاعة مجلس الأمن بالتصفيق.. كان الدبلوماسي الفرنسي دومينيك دوفيلبان ينهي خطبته التي لم يراعِ فيها سوى ضميره ومؤخراً، أعلن في تصريحات له أن ما حدث في غزة كان حرب إبادة بكل ما في الكلمة من معنى، هو الدبلوماسي الشاعر الذي لُقِب بضمير فرنسا إلى الشرق، والذي طالما ناصر السلام واعتبر الحروب كلها فشلاً ولا شيء يضمن أنها تؤدي إلى سلام.

دوفيلبان صوت عاقل ومُحلل وسيط وذكي، كتب وألّف وظهر في المنابر مُنادياً بتغليب العقل والحكمة على التهور والاندفاع، هو رجل الدولة الذي يؤمن بأن الحروب المُدمرة تترك وراءها إرثاً كبيراً من الحقد والكراهية، ولا تؤدي إلى سلام حقيقي وحدها آلة التدمير ومصانع الأسلحة تنجح.. وتفشل إنسانية الإنسان.
ولو تأملنا في هذه المقولة لوجدنا أن كل الحروب تاريخياً حتى تلك التي اعتبروها نجاحاً لم تكن سوى فشل إنساني وأخلاقي، حينما يتغلب الطمع والتوحش على قرارات الدول يُغيَّب العقل الحكيم ويتغلب الغضب الأعمى على نور البصيرة الواعية.

«الحرب.. إعلان فشل» عبارة تحمل في بساطة حد السكين لكنها تقطع عميقاً في وعي الشعوب هي ليست شعار سلام ناعماً، بل تشخيص سياسي وأخلاقي.. كل حرب تبدأ حين تعجز العقول عن الإقناع، والدبلوماسية عن الإصلاح وعن إيجاد حلول أخرى، الحرب هي إعلان أن البشر لم يجدوا لغة يتفاهمون بها سوى النار.
حين تُعلَن حرب.. هذا يعني أن الكلمات فقدت قيمتها وأن المنطق أُقِصيّ عن طاولة الحوار، تصبح القنابل هي اللغة، والدم هو التوقيع الأخير على وثيقة الخلاف، لكن الغريب أن الحرب رغم فشلها في الإنسانية، ما تزال تُسّوق كنجاح في «القوة»، البشر يحبون أن يُقنعوا أنفسهم أن النصر يَغسل الخطيئة، مع أن كل حرب تترك على الطرفين شيئاً مَكسوراً لا يُرمم، لو اخترنا الدقة الفلسفية يمكن القول: إن الحرب ليست فقط إعلان فشل سياسي، بل فشل حضاري لأن الحضارة تقاس بقدرة الإنسان على حلّ النزاع بعيداً عن القتل.
الجميل في العبارة أنها تُلزم السامع بالسؤال: فشل من؟ فشل القادة؟ أم فشل الشعب؟ أم فشل الفكرة ذاتها في أن تكون عادلة؟ وربما الأهم هو كيف تترجم المجتمعات هذا الفشل بعد أن تسكت المدافع.. هل تستطيع أن تعلو فوق رفات من رحلوا بسبب هذا الجنون، لتبني من عظام أبنائها جسور محبة وتلاقٍ؟ أم تقدس رمادهم ليتحول إلى نقمة وحقد تتوارثه الأجيال؟

ولو نظرنا تاريخياً إلى الحرب العالمية الأولى نجد أن الكثير من التحليلات وصفت ما حدث عام 1914 بالفشل الدبلوماسي، حيث غلب التسلح والتصعيد على العقل والتحذيرات.. لماذا؟ لأن الحرب أعلنت فشل القنوات الدبلوماسية، التي لم تستطع أن تمنع التهور والعنف، هي إذن إعلان فشل الوساطة والتفاوض.. وتعد الحرب العالمية الأولى بذرة لفشلٍ آخر أنتج حرباً ثانية أكثر شراسة.. الفشل في إدارة نتائج الحرب الأولى كشف أن الحرب لا تنهي المُشكلات، بل تعيد صياغتها بلغة أكثر دماراً وكأنها هدنة غاضبة.

عام 1918، حين انتهت الحرب، كان أكثر من 16 مليون إنسان قد فقدوا حياتهم، خرجت أوروبا من الحرب مُنهكة اقتصادياً ونفسياً، لكن من اعتبروا أنفسهم منتصرين لم يسعوا إلى مُصالحة، بل إلى عِقاب، معاهدة فرساي 1919 كانت إعلانُ نصرٍ غاضب لا سلام عاقل، فُرضت على ألمانيا تعويضات ضخمة. فقدت أجزاء من أراضيها وجُردت من جيشها. وألقيت عليها المسؤولية الأخلاقية عن الحرب. هذا الاتفاق لم يحقق سلاماً، بل إذلالاً سياسياً مَهّد لتفجير جديد، الرئيس الفرنسي ريمون بونكاريه قال لاحقاً: «لقد صنعنا سلاماً لا يمكن أن يدوم».

وكان صعود النازية نتيجة حتمية للسلام المَكسور، الإذلال الاقتصادي والسياسي الذي شعرت به ألمانيا خلق تربة خصبة للتطرف ومع الكساد الكبير 1929، فقد الناس الثقة بالديمقراطية فظهر هتلر بخطاب يَعد بإلغاء معاهدة فرساي واستعادة الكبرياء الوطني، كان في خطابه يقول ضمناً: «الدبلوماسية فشلت في إنصافنا فلنثق في القوة»، بكلمة أخرى الحرب العالمية الثانية لم تكن سوى رداً عسكرياً على فشل دبلوماسي في إدارة نتائج الحرب الأولى ومع فشل عصبة الأمم المتحدة في منع الكارثة الجديدة، فشلت أدوات الدبلوماسية التي أنشئت لتجنب حرب جديدة، فشلت لأن أي حرب عندما تُعلن لا تؤدي إلا إلى المزيد من الحروب.

تشرشل وصف لاحقاً اتفاق فرساي بأنه «ليست سلاماً، بل هدنة لعشرين سنة» وهي المدة التي فصلت بين الحربين. كذلك الحال في الحرب الثانية التي خسر فيها الجميع.

وفي التاريخ أصدق العِبر، الاتفاقيات التي تُوَقع تحت ضغط الدمار تؤدي إلى تَطرّف أعنف.. فتعود الحروب.. إلى نقطة البداية في دوامة الفشل.
* كاتبة وباحثة في الدراسات الإعلامية


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد