: آخر تحديث

القبس.. ورائحة الورق

4
3
3

السنون تمضي كالبرق، والذاكرة تعجز كثيراً عن اللحاق بها، ومع ذلك مازلت أتذكّر يوم بدأت رحلتي مع القبس في أغسطس من عام 1991، كتبت حولها حين انقضى ربع قرن من تلك العلاقة، ووجدتني مأخوذة بسرعة الزمن، فعاودت الكتابة عنها مع مرور ثلاثين عامًا، واليوم، ومع ذكرى تلك العلاقة التي شارفت على عامها الخامس والثلاثين، أجدني مدفوعة لأن أخزّنها كذاكرة على الورق.

يحذّر الكاتب المبدع جورج أوريل من استخدام الأنا في كتابة المقال، وهو بالتأكيد مُحق في ذلك، فالمقال بالتحديد غالباً ما يتناول أحداثاً مشتركة، وتكون كتابته بصفة الأنا إفراطاً في الشخصانية، التي قد تتعارض هنا مع الأحداث المشتركة.

لكن هنالك بعضاً من المقالات، التي تتناول تجارب شخصية، يكون معها استخدام الأنا مفروضاً وجزءاً من الصياغة العامة للمقال، وهو بالتحديد ما حدث في كل رواياتي عن تجربتي مع القبس.

في أغسطس عام 1991، ومع عودة الحياة إلى الكويت بعد تجربة الغزو المريرة، التي خلّفت ندوباً في كل من عاصرها، شهدت الصحافة الكويتية زخماً هائلاً وغير مسبوق من الكتّاب الكويتيين، الذين أرادوا التعبير عن تلك الحقبة، وأدركوا كمواطنين أن لهم دوراً مهماً وحاسماً في إدارة شؤون وطنهم، حتى وإن كان ذلك عبر رأي مكتوب أو مقال منشور، وكانت لـ القبس حينها حصة الأسد من ذلك الحرف الوطني، الذي ساد الصحافة الكويتية آنذاك، وازدحمت صفحة المقالات بأقلام شابة ورموز مخضرمة، وبالكاد كان هنالك مكان في الصفحة الأخيرة ولو لإعلان صغير. الجميع كان مدفوعاً بهاجس المسؤولية تجاه الكويت بعد المحنة القاسية، فتحولت القبس حينها إلى برلمان مفتوح لكل الآراء، وتألقت صفحاتها بعبق المسؤولية الوطنية والرقابية، وناضلت كثيراً، بالرغم من أسوار الرقابة المفروضة آنذاك، والتي غالبًا ما نجحت القبس بطاقمها المحترف في إيجاد مخرج توافقي منها.

احتضنت القبس حينها كتّاباً وشعراء، وفناني كاريكاتير، ومحللين سياسيين واقتصاديين، أقبلوا جميعاً للمشاركة في بناء الوطن توعوياً وفكرياً ووطنياً، يدفعهم في ذلك تبنّي القبس ذلك الخط الوطني، وموقفها الصارم في مواجهة مؤسسة الفساد، وغول استنزاف ثروة الوطن آنذاك بدعوى مشروع إعادة البناء، الذي شكّل حينها مدخلاً مغرياً للفاسدين، يساعدهم في ذلك تراجع أدوات الرقابة والمحاسبة.

احتضنت القبس كل هؤلاء، وكنت أنا ممن احتضنتهم، فكتبت على صفحاتها، مع منتصف أغسطس عام 1991، ما كان يكتبه الجميع آنذاك، ويعبّر عنه أصحاب الأقلام والزوايا، من خوف على الديموقراطية الكويتية، إلى هاجس الحريات والحقوق، ومن التوجّس من مؤسسة الفساد المرعبة، إلى التطلّع إلى بنية وطنية بلا فساد ولا حرامية، من تعليم وصحة وبيئة وبنية تحتية، وعدالة اجتماعية ورؤية مستقبلية حصيفة.

في بدايتي كنت أذهب إلى مبنى القبس، لألتقي الزميل حمزة عليان، مسؤول صفحة المقالات آنذاك، لأسلّمه مقالي الأسبوعي، ومن حينها أصبحت مأخوذة برائحة الورق والمطبعة، وأصبحت معها لـ القبس رائحة لا تزل عالقة في ذاكرتي، تداهمني كلما تذكّرت الكبار، الذين التقيتهم في القبس، وتجذبني كلما دخلت المبنى، وحتى اليوم.

الصحافة بشكل عام مسؤولية، والكلمة المكتوبة تكون كالحجر المُلقى في بحيرة راكدة، الذي حتماً سيحرّك ولو ذبذبات صغيرة. والقبس لا شك حرّكت ذبذبات كبيرة كان لها شأن وصدى في القرار السياسي، ومن خلال رحلة الخمسة والثلاثين عاماً، عاصرت الكثير من تلك الذبذبات التي أحدثتها القبس، ذبذبات طالما حرّكت في الجميع نوازع ومسؤولية وطنية تجاه الكويت، وكان لها دور وشأن في القرار السياسي والإصلاحي.

أما على المستوى الشخصي، فلا تزال تلك الذبذبات حية، ولا تزال رائحة الورق في القبس ترافقني بعد مرور خمسة وثلاثين عاماً.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد