نشرت مجلة «المجلة» في 1 يوليو 2025 مقالاً للدكتور كريستوفر فيليبس، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة «كوين ماري»، تحت عنوان: «دور القوة الناعمة في عالم تهيمن عليه القوة الصلبة». وقد استهل الكاتب مقاله بالإشارة إلى قيام الحكومة البريطانية في يناير الماضي بتأسيس هيئة جديدة تحت مسمى «مجلس القوة الناعمة» (UK Soft Power Council)، بهدف تعزيز نفوذ بريطانيا ومكانتها العالمية في ظل تصاعد المنافسة الدولية، وتراجع الاستثمار في المجالات الثقافية والدبلوماسية لصالح الميزانيات الدفاعية. ما لفت انتباهي في هذا المقال تحديدًا، هو ما يعكسه تأسيس مجلس القوة الناعمة من تطوير متواصل للبنية المؤسسية للدبلوماسية العامة البريطانية، وما يثيره - في الوقت نفسه- من تساؤل منطقي حول علاقة هذا المجلس بالمجلس القائم منذ سنوات، وهو «مجلس الدبلوماسية العامة» .(Public Diplomacy Board) ولتفسير هذا التحول وفهم مضامينه، لا بد من تتبع المسار الذي مر به، والذي تطور على ثلاث مراحل متناسقة:
المرحلة التأسيسية الأولى بدأت عام 2002 بإنشاء «مجلس استراتيجية الدبلوماسية العامة» (Public Diplomacy Strategy Bard)، كأول محاولة تنسيقية شاملة لدمج الجهود بين وزارة الخارجية، المجلس الثقافي البريطاني، خدمة BBC العالمية، وهيئات السياحة والتعليم، وكان هدفه الرئيس هو تعزيز صورة بريطانيا عالميًا باستخدام أدوات غير تقليدية؛ تعتمد على الثقافة والتعليم والإعلام.
وتمثلت المرحلة الثانية في التركيز على الجانب التنفيذي، حيث تم في إبريل 2006 دمج المجلس ضمن هيكل أكثر رسمية داخل وزارة الخارجية البريطانية تحت مسمى «مجلس الدبلوماسية العامة» (Public Diplomacy Board) ، وقد اتخذ هذا المجلس طابعًا تنفيذيًا، اضطلع فيه بمهمة تنسيق حملات الاتصال الخارجي الحكومية، وتنفيذ مبادرات تتسق مع أهداف السياسة الخارجية البريطانية، تشمل الحملات الرقمية، المبادرات التعليمية، مكافحة التضليل، وتنظيم الفعاليات الدولية.
وأخيرًا وليس آخرًا، أطلقت الحكومة البريطانية في يناير 2025 «مجلس القوة الناعمة» ككيان استشاري عالي المستوى، يضم ممثلين من المجتمع المدني، وقطاعات الثقافة، الإعلام، التعليم، والرياضة. ويهدف إلى وضع رؤية استراتيجية وطنية للقوة الناعمة البريطانية، تتجاوز حدود وزارات محددة، وتعمل على تنسيق موارد التأثير الناعم بما يخدم أولويات السياسة الخارجية والاقتصادية للمملكة المتحدة.
الجدير بالذكر، أن «مجلس القوة الناعمة» الجديد لا يتعارض ولا يلغي دور «مجلس الدبلوماسية العامة»، بل يُكمله ويوسّعه. حيث يتولى المجلس الجديد صياغة الرؤية الاستراتيجية متعددة القطاعات، بينما يستمر «مجلس الدبلوماسية العامة» في تنفيذ السياسات والحملات الخارجية ضمن أطر الحكومة البريطانية، خصوصًا وزارة الخارجية (FCDO) بالتعاون مع هيئات مثل BBC World Service والمجلس الثقافي البريطاني. ويعتبر هذا التكامل نقلة نوعية في الطريقة التي تدير بها المملكة المتحدة أدوات نفوذها الناعم: بدءاً من العمل القطاعي المنفصل، إلى التنسيق المؤسسي، وصولًا إلى الرؤية المتكاملة العابرة للوزارات.
ختاما، يمثل تأسيس «مجلس القوة الناعمة البريطاني» خطوة متقدمة تؤكد على أهمية العمل المؤسسي والتخطيط الاستراتيجي في توظيف مصادر القوة الناعمة، والذي يمكن أن يؤدي غيابه لجعل ذلك التوظيف عُرضة للتشتت والازدواجية والميول والأحكام الشخصية، ويُضعف القدرة على تقييم الأداء واستثمار الموارد بفاعلية.
وأرى أنه من المفيد مقارنة هذا النموذج البريطاني بنماذج دولية أخرى سبق لي الكتابة عنها ومنها:
- الهيئة الاستشارية للدبلوماسية العامة (ACPD)، في الولايات المتحدة الأمريكية.
- مجلس القوة الناعمة الإماراتي.
- منتدى القوة الناعمة الألمانية (Deutsches Soft Power Forum) .
- مركز كوريا للتواصل الثقافي (KOCIS) .
- مجلس التبادل الثقافي الدولي الياباني (Japan Foundation) .