خيرالله خيرالله
جئت إلى لندن في بداية العام 1988 للمساهمة، مع زملاء آخرين، في إطلاق صحيفة «الحياة» العريقة التي كانت توقفت عن الصدور في العام 1976 بسبب الحرب اللبنانية. كانت مكاتب «الحياة» في وسط بيروت الذي دمرته تلك الحرب التي اندلعت في أبريل 1975.
فوجئت في لندن بوجود زميل اسمه كمران قره داغي، يساهم بدوره في الإعداد لعودة الحياة إلى «الحياة» بتشجيع من الصديق جميل مروّة الذي لعب دوراً أساسياً في ضمّ كمران إلى أسرة الصحيفة القديمة - الجديدة التي صارت مع صدورها إحدى أهمّ الصحف العربيّة.
كان أكثر ما فاجأني في كمران قره داغي، الكردي العراقي الذي يتكلّم الروسية، إلمامه العميق بالشأن الداخلي للاتحاد السوفياتي الذي أمضى فيه سنوات طويلة.
اكتشفت مع مرور الأيام أنّه بين أوائل الخبراء الذين رصدوا التغييرات التي يشهدها الاتحاد السوفياتي بعدما صار ميخائيل غورباتشوف في الواجهة.
سمعت من كمران قره داغي، للمرّة الأولى ماذا تعني كلمتا «بريسترويكا» و«غلاسنوست»، وما كان يقصده غورباتشوف بهاتين الكلمتين عندما كان يحاول القيام بالإصلاحات المطلوبة من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من نظام آيل إلى السقوط على الرغم من كلّ ما كان يمتلكه من أسلحة وقنابل نووية.
كان كمران قره داغي حاسماً في ما يخصّ فقدان أي أمل في قدرة النظام السوفياتي على التطور والحؤول دون الانهيار الكبير الذي حصل لاحقاً، خصوصا بعد سقوط «جدار برلين» خريف 1989.
ماذا يقول كمران قره داغي، في المرحلة الراهنة مع انعقاد القمة بين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، والكلام عن الإعداد للقاء بين الرئيسين الروسي والأوكراني فولوديمير زيلينسكي، من أجل وقف الحرب؟ يظلّ أهمّ ما في تقويمه للوضع القائم استبعاده عقد لقاء بين بوتين وزيلينسكي.
يشرح الأسباب التي تدعوه إلى التشكيك في قدرة الرئيس الأميركي على الجمع بين الرئيسين الروسي والأوكراني مستنداً إلى الآتي:
«متابعتي للأجواء الروسية ومعرفتي بالسلوك الروسي الرسمي ومزاج والعقلية السلافية في الكرملين وإعلامه وخبرائه يجعلني أعتقد ان القمة المفترضة بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأوكراني فولوديمير زيلينسكي لن تحدث في ظل الشروط المتتالية التي يطالب بها بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف، والتي يصر كلاهما على تحقيقها قبل عقد أي قمة مع زيلينسكي. يضيف بوتين ولافروف شرطاً جديداً أو أكثر بين يوم وآخر.
بداية أشير إلى أن كل الذين ذكرتهم (في موسكو) لا يكفون عن السخرية من «الممثل الهزلي» زيلينسكي والاستهزاء به ويشككون بشرعيته، معتبرين أنه لا يملك شرعية اتخاذ أي قرار وما يتخذه من قرارات لن ينفذ كونه رئيساً بل صلاحيات.
أما «الخبراء» والإعلاميون والمحللون الموالون للكرملين الذين يظهرون يومياً في ندوات تبثها القناة التلفزيونية الرسمية فحدث ولا حرج.
هؤلاء يؤكدون صراحة أن بوتين لن يقدم ولا يجب أن يقدم أي تنازل لأوكرانيا ويجب الاحتفاظ بكلّ الاراضي الاوكرانية التي تسيطر عليه قواته بل يتعين على القوات الأوكرانية أن تنسحب من الأراضي الأوكرانية التي لم تستطع القوات الروسية الاستيلاء عليها حتى الآن.
أجواء الحرب تطغى على المجتمع الروسي وما عمل بوتين وجماعته على تعزيزها وتأجيجها على مدى العقدين الماضيين من حكمه. تنعكس هذه الأجواء في كل شيء وكل مناسبة مثل الحفلات الغنائية والترفيهية التي تحرص السلطات الروسية على تنظيمها يومياً تقريباً وتعج بالأغاني «الوطنية» التي تمجّد النصر الكامل على النظام الاوكراني«النازي» استكمالاً للنصر المبين الذي حققه الجيش الأحمر السوفياتي على المانيا النارية. بل صار الروس يضيفون إلى أوكرانيا دولاً أوروبية، خصوصا المانيا، حيث يعتبر الكرملين أن النازية عادت ترفع رأسها مجدداً في هذا البلد.
في ظواهر أخرى تصبّ في هذا الاتجاه تعج محطات التلفزيون الروسية بأفلام وثائقية وعروض فنية عن بطولات الجيش الأحمر والشعب السوفياتي خلال الحرب العالمية الثانية التي تسمى رسمياً بـ«الحرب الوطنية العظمى»!
اختفت الأفلام والبرامج التي كانت تكشف الجرائم التي ارتكبها النظام السوفياتي الستاليني لتحل مكانها أفلام وبرامج تمجد ستالين نفسه والنظام السوفياتي الزائل وجهاز«كي جي. بي» (جهاز الاستخبارات السوفياتي) الذي كان بوتين ضابطاً فيه.
في هذا الاثناء، تصعّد القوات الروسية حربها على أوكرانيا. تهاجم المدن الأوكرانية بمئات المسيرات وعشرات صواريخ «كروز».
لا يشير ذلك إطلاقاً إلى تهيئة الأجواء المناسبة للتفاوض من أجل السلام بين روسيا وأوكرانيا.
الأهم من ذلك كلّه أن بوتين حرص على بناء سمعته وزعامته على أساس تحقيق النصر الكامل على أوكرانيا مهما كان الثمن. لذا، فإنّ أي تراجع أو تنازل سيكون بمثابة هزيمة لروسيا وخيانة لها.
من الأغاني التي اشتهرت في السبعينات بمناسبة الذكرى الخمسين لاستسلام المانيا النازية أغنية عنوانها «يوم النصر». هذا هو يوم النصر كما تؤكد كلمات هذه الأغنية التي صارت تقدم في كل مناسبة وحفلة غنائية. يحدث ذلك حتى في برامج كشف المواهب الغنائية التي كانت تستثني تقديم أغان سياسية ووطنية.
نلاحظ أيضاً أن الأغاني العاطفية تتراجع وصار أصحاب المواهب يتبارون على أداء الأغاني الوطنية التي ظهرت خلال الحرب العالمية الثانية وبعد نهايتها وظلت طاغية طوال الخمسينات والستينات وحتى السبعينات من القرن الماضي.
ما أسلفت في ذكره يجعلني أعتقد أن بوتين سيجد الأعذار اللازمة لإحباط مساعي الرئيس ترامب لعقد قمة روسية - أوكرانية أو قمة ثلاثية مع أميركا».
من الواضح، في ضوء المعلومات التي ترد على لسان كمران قره داغي، أنّ ليس ما يدعو إلى الاعتقاد بأنّ بوتين يبحث عن نهاية للحرب التي شنها على أوكرانيا في فبرابر 2022، بل رهان الرئيس الروسي على السير إلى النهاية في حرب بات مصير مستقبله السياسي مرتبطاً بها!