: آخر تحديث

نار الإصلاح

2
2
2

عمر الطبطبائي

حين يُقال إن الخصخصة تبدأ عند الوعي، أتذكر الحروف الأولى التي يرسمها الطفل على الجدار، ليست مجرد خطوط تقرأ، إنما فعل فطري لكسر السكون، ورسالة تقول إن مرحلة الجمود انتهت وإن شيئاً جديداً بدأ، حتى لو لم يكن متقناً بعد، كذلك الخصخصة، فهي ليست مجرد نقل ملكية من الدولة إلى القطاع الخاص، بل خطوة لكسر أنماط الإدارة القديمة وفتح الباب لتجربة جديدة قد تتطور وتتحسن مع الوقت.

الخوف من الخصخصة ليس خوفاً مرضياً، بل وعي بأن العملية لا تنجح في فراغ، إنما تحتاج إلى مجتمع يعرف معنى المنافسة، إلى تجار يعون أن الميدان ليس غابة، وإلى قانون رقابي يقف على قدمين لا على عكازين، ومع ذلك لا يجوز أن يتحول الحذر إلى جمود، لأن التجارب العالمية تثبت أن النجاح والفشل يُرسمان في التفاصيل لا في الفكرة المجردة.

في المملكة المتحدة، قادت مارغريت تاتشر، في الثمانينات واحدة من أكبر موجات الخصخصة في العالم، حيث توسّعت ملكية الأسهم الشعبية من نحو 3 ملايين شخص إلى أكثر من 12–15 مليون مواطن، لم يقتصر الأمر على تحسين الأداء، بل غيّر ثقافة الملكية الاقتصادية، كما انخفض معدل الحماية الفعلي من 9.3% في عام 1968 إلى 1.2% بحلول 1986، ما فتح السوق أمام المنافسة.

في تشيلي، منذ أواخر السبعينات وحتى التسعينات، تم بيع البنوك والطاقة والاتصالات، وارتفع دخل الفرد من نحو 4.000 دولار في منتصف السبعينات إلى حوالي 25.000 دولار عام 2015، وتراجعت نسبة الفقر إلى نحو 38%، لكن التجربة لم تخل من الجدل، إذ تحوّلت الخصخصة في كثير من الحالات إلى أداة بيد المقربين من السلطة، فبيعت شركات وأصول كبرى بأسعار أقل من قيمتها الحقيقية، ما سمح بتكوين نخبة اقتصادية ضيقة رسخت نفوذها على حساب المنافسة العادلة والمصلحة العامة.

أما سنغافورة، فقد اختارت طريقاً وسطاً، فاحتفظت الدولة بالملكية من خلال شركات مرتبطة بالحكومة، المعروفة اختصاراً

بـ GLCs/ Government-Linked Companies، وهي شركات تملكها الحكومة كلياً أو جزئياً، لكنها تُدار بعقلية القطاع الخاص، بمجلس إدارة محترف وأهداف ربحية وكفاءة تشغيلية تخضع لمعايير الحوكمة والشفافية، وحققت هذه الشركات كفاءة تشغيلية تضاهي نظيراتها في القطاع الخاص، بدعم من رؤية وطنية واضحة.

في المقابل، كانت روسيا مثالاً على الفشل السريع، حيث أطلقت برنامج «قسائم الخصخصة» عام 1992، ووزعت القسائم على 98% من المواطنين، لكن في غياب الثقافة السوقية بيعت أغلبها بأبخس الأثمان، ما مكّن قلة من رجال الأعمال فاحشي الثراء، المعروفين بـ«الأوليغارشية»، من السيطرة على أصول إستراتيجية مثل النفط والمعادن، والأوليغارشية هنا تعني طبقة ضيقة من أصحاب المليارات الذين كوّنوا ثرواتهم بسرعة من خلال صفقات خصخصة غير عادلة، وامتلكوا نفوذاً اقتصادياً وسياسياً واسعاً، وفي 1995 منحت الدولة عبر برنامج «القروض مقابل الأسهم» حصصاً ضخمة في شركات كبرى بأسعار زهيدة لهذه الفئة، ما رسّخ سيطرتهم على الاقتصاد.

الأرجنتين أيضاً واجهت إخفاقاً واضحاً، حيث باعت نحو 300 مؤسسة حكومية بين 1989 و1994 مقابل 24 مليار دولار، ذهبت غالبية العائدات لسداد «الدّين العام» من دون استثمار حقيقي في البنية التحتية، وهنا لا يمكن تجاهل أن لعبة «الدّين العام» كثيراً ما تستعمل كأداة ضغط من بعض القوى الخارجية لدفع الدول نحو قرارات اقتصادية مجحفة، وهي لعبة يعرفها من يتأمل واقعنا اليوم، وللأسف تبدو الكويت وكأنها اتخذت الخطوة الأولى في هذا السيناريو رغم وفرة أموال محتجزة يمكن أن تغنيها عن ذلك، - كما بيّناه في مقالنا السابق بتاريخ 26 مايو 2025 - ورغم تحقيق الشركات المخصخصة أرباحاً تجاوزت 56% من إجمالي أرباح أكبر 200 شركة بين 1993 و2000، فإن أسعار الخدمات العامة ارتفعت، ما أثار حالة من عدم الرضا لدى المواطنين.

هذه التجارب توضح أن الخصخصة ليست خيراً مطلقاً ولا شراً مطلقاً، بل أداة تحتاج إلى عقلية الجراح، فالنجاح يتطلب قانوناً صارماً، وثقافة تنافسية، واستثماراً مسؤولاً، وخطة تدريجية قابلة للتقييم والتصحيح، ولهذا فإن البدء بالبريد أو الرياضة في الكويت قد يكون مختبراً آمناً، حيث المخاطر محدودة والفائدة التعليمية كبيرة، ويستطيع الناس رؤية الفارق على أرض الواقع.

وهنا تأتي فكرة الخصخصة التشاركية كحل وسط، حيث تشترك الدولة مع القطاع الخاص في الملكية والإدارة، في الكويت يمكن للخطوط الجوية الكويتية أن تدخل في شراكة مع ناقل جوي عالمي يمتلك خبرة تشغيلية وتسويقية، مع احتفاظ الدولة بحصة مسيطرة أو أقلية مؤثرة، وفي السياحة تمثل شركة المشروعات السياحية فرصة مماثلة، حيث توفر الدولة الأرض والبنية التحتية وتبقى مالكة للأصول، بينما يدير الشريك الخاص المرافق ويطورها وفق مؤشرات أداء واضحة، هذه الصيغة تحافظ على الهوية الوطنية وتحقق جودة أعلى، وتجنّب صدمة البيع الكامل التي قد تواجه رفضاً مجتمعياً.

في النهاية، ليست المسألة أن نفتح الباب أو نغلقه، بل أن نعرف متى وكيف وبأي شروط نسمح بدخول التغيير إلى بيتنا، وألا ننسى أن هذا التغيير مثل النار، يدفئ البيت إذا وضع في موقد، ويحرقه إذا ترك بلا جدران، ولهذا سُمّيت هنا نار الإصلاح، لأنها قادرة على أن تمنح الحياة أو تلتهمها، بحسب من يشعلها وكيف يديرها.

اللهم قد قلنا ما في ضميرنا فكن لنا شهيداً.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد