كثيراً ما يجري الخلط بين إجرام أصحاب الجُنح في صورتهم التقليدية، التي يجسدها السارق والقاتل والمعتدي، وبين إجرام الإرهابيين، الذين يتصفون بكل تلك الصفات الإجرامية، ومع ذلك تصل خطورتهم إلى مستوى راديكالي لا مجال فيه للمقارنة مع الفئة الأولى. وتفسير ذلك يعود إلى سبب بسيط؛ فحينما يرتكب المجرم أفعاله، فإنه لا يبرر هذه الأفعال إلا استناداً إلى سرديته الخاصة، وإلى انفعالاته الفردية، لكن من دون أن يربطها بمهمة أو مشروع، ويدرك المجرم أن أفعاله لا تندرج ضمن أي إطار فكري أو مشروع يتجاوز دوافعه الشخصية. أما الإرهابي، فإنه وإن مارس السلوك الإجرامي ذاته، فإنه يُخضعه لسردية آيديولوجية أو دينية منحرفة تمنحه وهم المشروعية، مما يجعله أكثر خطورة من المجرم العادي.
إنّ الجريمة في منظور الإرهابي، هي مهمة خاصة لا تُرتكب لذاتها، ولا تتعلق به بصفته فرداً، بل تصبح في خطاب المتطرفين جزءاً من سردية عامة للجماعة التي ينتمي إليها في علاقتها النسقية مع أعداء متصوَّرين يُضفون على عنفه طابعاً رمزياً يصل إلى حد التبجيل. كما أن الانفعالات التي تصاحب هذه الحالة الإجرامية تأخذ في أدبيات المتطرفين صورة تفوّقٍ أخلاقي وفضائلي، مما يجعلها أمراً مطلوباً يفاخرون به. وهذا ما يدفعهم إلى اعتبار كل عقوبة قانونية تطولهم مجرد مرحلة اختبار لاستمرار مشروعهم. وبهذا الانغلاق الذهني، يرفضون تماماً الاعتراف بجرائمهم، أو إدراك بشاعة ما ارتكبوه تحت تأثير الآيديولوجيا التي تعمل على عزلهم عن المجتمع وعن الواقع الفعلي للأشياء.
ماذا يعني كل هذا؟ يعني أن خطر الجريمة الإرهابية يتجاوز البُعد المادي والأخلاقي، الذي نراه في بقية الجرائم الأخرى، ليصل إلى مستوى البُعد الرمزي، حيث يصبح العنف طقساً عقائدياً يجد فيه المتطرف خلاصه وخلاص الآخرين، في إطار معركة مستمرة لها أدواتها. وداخل هذا النظام الرمزي، تتحول كل الأفعال إلى علامات مُصطنعة تُخفي الوقائع الفعلية؛ فلا الضحية في هذه الحالة يبدو ضحية، ولا يُدعى المجرم في هذا القاموس مجرماً، ولا تُعد السرقة سطواً أو سلباً، ولا يُنظر إلى الدم المسفوك في العمليات الإرهابية على أنه دم بشري له الحق في الحياة. إن الفاعلية الرمزية للتطرف تعمل على طمس الواقع تماماً في أعين الأتباع، لتخلق لهم عالماً يضفي الشرعية والمعقولية على جميع العمليات الإرهابية، مما يجعلها تبدو منطقية ومقبولة ومبرَّرة لكل من وقع في فخ التطرف. ومن هنا، ينبع الخطر الحقيقي لهذا العنف، الذي لا يقتصر على التشابه الظاهري مع الجريمة المنظمة، بل يمتد تأثيره ليهدد استقرار المنظومة الرمزية داخل المجتمع، مما يؤدي إلى زعزعة القيم وإعادة تشكيل المفاهيم وفقاً لمنطق التطرف والعنف الممنهج.
إذن، كيف نقيس حجم هذا الخطر؟ علينا أولاً أن نستحضر مركزية «العلامات الرمزية» في حياة الشعوب، إذ إن ما يميز الإنسان عن غيره هو تجاوزه المستوى الطبيعي للحياة نحو مستوى موقوف عليه، يتمثل ذلك في الحياة الثقافية، التي تعد محور النسق القيمي والدلالي والمعرفي للمجتمعات. فليس هناك بعدٌ في حياة الإنسان مهما كان مرتبطاً بأصول طبيعية، إلا ويجري تحويله إلى صورة رمزية ثقافية تمنحه معناه ودلالته لدى الناس، وينطبق ذلك على أبسط الأشياء؛ فمثلاً الأكل والزواج وتكوين الأسرة، حين تتحرّر هذه الممارسات من مدلولاتها الطبيعية ستكتسب قيماً ودلالات رمزية لها معنى يتباين بتباين الثقافات والسياقات الاجتماعية. ويمتد هذا الطابع الرمزي ليشمل الشرعية السياسية، التي لا تستند في المجتمعات البشرية إلى مجرد الغلبة بمعناها الفيزيائي الطبيعي، بل ترتبط جوهرياً بقبول الشعوب الاحتكام إلى قوة شرعية محددة، داخل نظام مكوّن من الرموز المتعارف عليها والمتوافق بشأنها، ويجسّد هذا النظام أطرافاً تُمنح صلاحيات شرعية في إدارة الحياة العامة، وفق منظومة مؤسساتية محكَمة، بعيدة عن الأهواء والميول الفردية. إن هذا التوافق الرمزي بين سُلطة الدولة وحقوق وواجبات المواطنة هو مفتاح استقرار المجتمعات وقدرتها على تحقيق العيش المشترك، حيث يقبل الأفراد بأن يكونوا جزءاً من منظومة رمزية عامة، بدلاً من الانعزال عنها في محاولة لبناء منظومة خاصة بهم، مما قد يؤدي إلى انفلات فوضوي يهدد النظام العام.
بهذا المعنى، إذا كان المجرم شخصاً يعتدي بشكلٍ ما على «علامات رمزية» محددة تتعلق بالملكية الخاصة، والحق في الأمن والحياة، والانضباط للقانون، وهو ما ينتهي مباشرةً بعد استكمال عقوبته، بحيث تتاح له فرصة جديدة للاندماج مجدداً داخل المجتمع، فإن المتطرفين على العكس من ذلك، إذ لا يستهدفون فقط خرق القانون، بل يوجهون اعتداءهم إلى النسق الرمزي للعلامات ذاتها. إنهم -وبصورة مقصودة- يسعون إلى تدمير هذه المنظومة بالكامل، ويمنحون أنفسهم سُلطة إعادة تعريف الأفعال والصفات والصلاحيات، مما يجعلهم خارجين جذرياً عن الشرعية، وليسوا مجرد مخالفين للقوانين أو مرتكبي جرائم بمستوياتها المختلفة.
وهنا، حين نؤكد خطر التطرف، حتى وإن لم يصل بعد إلى مستوى الإرهاب، فإننا نسعى بذلك إلى التنبيه إلى أن هذا الاعتداء غير المادي على استقرار دلالات «العلامات الرمزية» يخلق نوعاً من الفوضى الدلالية للكلمات ذات الأهمية القصوى في حياة المجتمعات. بل إن هذا الخطر قد يتفاقم ليصل إلى حالة من التضخم اللغوي، بحيث يصبح من الصعب التمييز بين الدلالات الحقيقية والدلالات الزائفة للمصطلحات، مما يهدد جوهر اللغة من حيث كونها وسيلة للتواصل الإنساني الفعلي بين الأفراد والمؤسسات. في ظل هذه الفوضى، تتحول الكلمات العابثة وغير المنضبطة ضمن النسق الدلالي العام للعلامات إلى أصوات مُبهمة ومختلطة، أقرب ما تكون إلى صراخ لا يحمل أي دلالة واضحة. وهذا ما يُفسّر شغف المتطرفين بالاستعراضات الصوتية في خطاباتهم، إذ يعوِّضون بذلك ضعف لغتهم التي تتيح لهم التلاعب بالمفاهيم، وتسمية الأشياء بغير أسمائها، وإخفاء شناعة مخططاتهم خلف رنين كلمات أُفرغت من دلالتها الفعلية. فالكلمات لا يمكن أن تحمل معنى حقيقياً وثابتاً وواضحاً إلا من خلال مؤسسات تعمل على ضبط الدلالات، والتمييز بين ما هو شرعي وما هو غير شرعي، وبين ما هو أصيل وما هو زائف. وحينما تنتفي هذه القدرة داخل مجتمع ما، يكون المتطرف قد حقق غايته، إذ يتمكن بذلك من تدمير العلاقة التواصلية بين مكونات المجتمع ومؤسسات الدولة. وعندما يُكمل المتطرفون مشروعهم التدميري بالكامل، يفقد القانون والشرعية قدرتهما على حسم الخلافات بين الناس، فلا يبقى أمامهم سوى اللجوء إلى العنف. وهذا ما يحدث عندما ينزلق بعض المجتمعات إلى الحروب الأهلية، حيث تتلاشى «العلامات الرمزية» تماماً، ويعود الأفراد إلى حالة الطبيعة، حيث تصبح العلامات المادية الخام هي المرجع الوحيد في التفاعل الاجتماعي. في هذه الحالة، يصبح من الصعب التمييز بين العنف المستند إلى مبررات شرعية، والعنف الطبيعي القائم على المصالح الشخصية والأهواء الفردية. إنها مجتمعات يفقد فيها القانون سلطته، ويتحول كل فرد فيها إلى قاضٍ لنفسه، وكل طرف إلى مركز سلطة مستقل، مما يؤدي إلى انهيار النظام الاجتماعي وعودة المجتمع إلى حالة من الفوضى المطلقة.
لهذا، فإن مكافحة التطرف ينبغي أن تبدأ بالحفاظ على حالة يقظة مستمرة تجاه كل ما قد يمس استقرار منظومة «العلامات الرمزية»، أو أي محاولة للتلاعب بها وتمرير أجندات مشبوهة عبر إعادة تأويلها وفق مشاريع آيديولوجية. فالكلمة الفصل في هذا السياق تعود إلى المؤسسات التي تمتلك الصلاحية الشرعية الكاملة في تحديد دلالات هذه العلامات وحدودها، بخاصة تلك التي تمس الحياة الروحية، والسياسية، والاجتماعية. وكل نقاش لاحق أو موازٍ يجب أن يدور ضمن هذه الثوابت المؤسسية الصلبة، التي أثبت التاريخ، قديماً وحديثاً، أن الدول القوية تحرص بشدة على منع أي تشويش قد يطولها، نظراً إلى كونها العمود الفقري الذي تعتمد عليه جميع القطاعات الأخرى. ذلك لأن الحياة المدنية السليمة لا يمكن أن تُبنى وسط فوضى لغوية، أو في ظل غياب مرجع نهائي قادر على حسم الخلافات بشكل قاطع. فمثل هذه الفوضى هي البيئة المثالية لنمو التطرف بأشكاله، ولهذا من الضروري التصدي لها باستمرار وقطع الطريق أمامها، وذلك عبر عمل مسؤول ومنضبط يُميّز بوضوح بين الحوار التواصلي الذي يحترم نسق دلالات «العلامات الرمزية»، وبين السجالات الجدلية والكيدية التي تهدف إلى تسميم الحياة المدنية من خلال نشر فوضى اصطلاحية ودلالية، غالباً ما تكون المدخل إلى الفوضى الاجتماعية والسياسية.
* الأمين العام للمركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف - «اعتدال»