أمينة خيري
مستقبل الإعلام وحاضره يقفان في منعطف محوري. القادرون على استشراف المستقبل نبهوا وحذروا من أن القادم مذهل، ومن لن يتأهب ويتحضر، بل ويسبق التطورات، سيجد نفسه فعلاً ماضياً.
أتذكر تلك المرة التي تابعت فيها مع الحضور في «منتدى الإعلام العربي» قبل سنوات كثيرة تجربة الذكاء الاصطناعي في الخروج بعشرات أو مئات الأخبار الاقتصادية دون تدخل من البشر. بدت التجربة آنذاك أقرب ما تكون إلى فيلم خيال علمي مربك.
بعدها، وفي «قمة الحكومات» التي شرفت بالمشاركة فيها في عام 2019، استمعت إلى أحد المتحدثين، وهو الشريك المؤسس لشبكة «نوه وير» الإخبارية، الذي تحدث عن مستقبل يفقد فيه الإعلام التقليدي هيمنته على الأخبار بصورة شبه كلية، وكيف أن الذكاء الاصطناعي بات يقدم مواد صحافية أكثر موضوعية وأعمق مصداقية من البشر.
ودعا المتحدث الحضور إلى التوقف عن محاربة والتشكك في الروبوتات، والترحيب بها والتواؤم معها، وذلك على سبيل الاستشراف وتعظيم الفائدة وتقليص الخسارة.
اليوم، وبعد هذه السنوات، يجد الإعلام التقليدي في العالم نفسه في موقف بالغ الصعوبة، ولكن الصعوبة درجات. من استشرف وتحضر، أظهر قدرات فائقة ليس فقط على مجاراة التطور، ولكن على الاستفادة والمضي قدماً. أما من اعتبر الاستشراف مبالغة، والتوقعات وهماً وخيالاً، فهو الأكثر معاناة وتجرعاً للخسارة، أو التوقف التام.
ارتفاع تكاليف الإنتاج، وتقلص عائدات الإعلانات، وتغير عادات المتلقين أو المستهلكين، جعلت استمرارية الإعلام التقليدي الرافض للتحديث والمقاوم للمواكبة شبه مستحيلة.
في المقابل، بدأ الحديث عن «الأخبار المتوحشة». يصفونها بـ «الاتجاه الثوري في إنتاج الأخبار عبر الذكاء الاصطناعي»، لكن المثير إنه ليس مجرد إنتاج، بل صناعة تنبؤية لها. تتنبأ هذه الأخبار بالأحداث قبل حدوثها، وذلك بناءً على خوارزميات الذكاء الاصطناعي الذي يقوم بغربلة كم هائل من الأخبار والمعلومات والبيانات، والخروج بأخبار ستحدث بناءً على التسلسل المنطقي للمعلومات الموجودة!
بالطبع كذب المنجمون ولو صدقوا. وربما تكون مثل هذه الأخبار التنبؤية في طورها الأول، وقد لا تنتقل إلى طورها الثاني، ولكنها مؤشر على ما نحن مقبلون، أو بالأحرى، أقبلنا عليه.
الإمارات من أوائل دول العالم التي لم تكتف بالبقاء على قيد الحياة في العصر الرقمي، بل استشرفت واستعدت وواكبت وما زالت.
اختارت أن تستبق المستقبل بخطوة، لا أن تتعايش وتواكب فقط.
وحين أطلق رئيس المكتب الوطني للإعلام ورئيس مجلس إدارة مجلس الإمارات للإعلام معالي عبدالله بن محمد بن بطي آل حامد مبادرة «خبراء الإعلام»، أكدت الإمارات مجدداً أنها ضمن أوائل المستشرفين، وأنها لا تقايض مهنية واحترافية ومصداقية الإعلام التقليدي بحداثة وتطور وإبهار العصر الرقمي وذكائه الاصطناعي، بل تبني الغد وحداثته على جذور الأمس وأصالته واحترافيته.
وهل هناك وصفة سحرية لمواكبة مستقبل الإعلام في عصر الذكاء الاصطناعي بناءً على معايير أصيلة ومهنية أفضل من الاستفادة من خبرات الرواد في كل التخصصات ودمجها بالمقومات والقدرات الرقمية؟
خبرات الرواد وحدها لم تعد كافية لصناعة إعلام يخاطب كل الفئات والأجيال.
والذكاء الاصطناعي وحده لا يصنع إعلاماً مهنياً يتبنى قضايا المجتمعات ويحقق الوعي والمعرفة المطلوبين.
التميز الإعلامي في الحاضر والمستقبل يتحقق في أبهى صوره عبر دمج الحسنيين، خبرات الكبار، والإمكانات الرقمية. الأول يقوّم الثاني، والثاني يحدّث الأول.
تأتي هذه المبادرة في توقيت بالغ الأهمية والخطورة. المنطقة العربية في حالة تغير، والخريطة السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية في مخاض عسير، والإعلام أحد أهم حوائط الصد والوعي والحماية للشعوب العربية في هذه المرحلة الصعبة.
لم تعد مناقشات المشهد الإعلامي تقتصر على منافسة بين الصحف ومواقع الأخبار ومحطات الأخبار التقليدية من جهة، وصناع المحتوى، بمن فيهم صناع المحتوى الخبري والتحليلي من جهة أخرى. كما لم تعد تدور في فلك من يهزم من؟ أو من يتأثر بمن؟ أو من يجذب من؟
المشهد الحالي ينبئ بمرحلة إعلامية جديدة، البقاء فيها للأكثر قدرة على المرونة والاستشراف، مع الحفاظ على قواعد المهنية وأسس المصداقية.