هناك بالطبع فن راقٍ وفن مبتذل. المعيارية قيمة مهمة في حياة المجتمعات لكي تحاسب نفسها وتنتقد وتُحسِّن وتطمح. ولكن هل هما خصمان متحاربان يجب على أحدهما أن يقضي على الآخر؟ أم أنهما ثمرتان لشجرة واحدة؟
هناك طريقتان في الحياة للحصول على كائن متطور: الأولى بالانتخاب الطبيعي؛ رحلة من التفاعل مع البيئة، وبقاء الصفات الأنسب، حتى يصل الكائن إلى هيئة قادرة على البقاء. بهذا المعنى فإن الكائن المتطور يعتمد في وجوده على الكائنات الأقل تطوراً. الإنسان المعاصر -على سبيل المثال- تغير تركيبه الجيني إلى الصورة التي نعرفها بفعل عوامل كثيرة، من ضمنها الفيروسات. المحاصيل تحتاج إلى بكتيريا في تربتها، أو حتى إلى آفات إن لم تقضِ عليها حسَّنت صفات الباقي منها. عملية الإنتاج الفني تحاكي هذا.
الطريقة الثانية للحصول على كائن في صورته المتطورة: الاستنساخ. وهي طريقة لا بأس بها في الفن أيضاً. أن ننظر في التجارب الناجحة، وأن نستنسخ صورتها الأرقى. ولكن -وكما في الكائنات المستنسخة- هذه الصورة الأرقى لن تكون جاهزة لمزيد من التطور إلا بمخالطة الحياة الطبيعية على هيئتها، وبكل درجاتها. إن احتفظنا بها للعرض فقط فستتحول إلى صورة متحفية تصلح -فقط- للدراسة.
من هنا، فإن السعي إلى إنتاج فن راقٍ ليس المشكلة. المشكلة تأتي من محاولة أنصار هذا النوع من الفن إخلاء الساحة مما يعدُّونه مبتذلاً:
أولاً لأنه سيحرم هذا الفن «الراقي» من دافع المنافسة والتطوير. ولو عَددتَ الفن المبتذل فيروسات، فالحماية المبالغ فيها ستحرم الفن الراقي من ضرر مؤقت وفائدة ممتدة. ربما يتعلم خفة ظل، ربما يتعلم إيقاعاً جديداً، ربما يتعلم فلسفة في التفكير التلقائي يفتقدها الفن المصنوع بعناية، ربما يتعلم عيوباً عليه أن يتجنبها.
وثانياً؛ لأننا لا نعرف خريطة الجمهور؛ بل نكتشفها بالتجربة. القضاء على ما تعدُّه فناً مبتذلاً لا يعني تحول جمهوره تلقائياً إلى ما تعدُّه فناً راقياً. العزوف التام احتمال آخر.
رأينا ذلك في مصر، في موجة سماها أصحابها «السينما النظيفة»، بدعوى أنها أرقى أخلاقياً. ثم سرعان ما صارت الأكثر تحريضاً على التحرش، وعلى الانتقاص من المرأة، وعلى السطحية، والادعاء، والاهتمام بالمظهريات من دون عمق. أهانت مشاعر الحب، وحولت الفن إلى خطابة مستترة.
ورأينا ذلك في الاتحاد السوفياتي؛ إذ قضى على التطور الفني المشهود في روسيا القيصرية، بدعوى تفاهته وطفيليته وافتقاده إلى الرسالة.
الفن الموصوف بالرقي بهذا المفهوم فن رسالي دعوي. وهو محاولة لهندسة عالم الفن كلياً. مجرد الإقدام على المحاولة تعني أن أصحابها يظنون أنهم أحاطوا بكل شيء علماً. بينما الفن -ككل نشاط إنساني آخر- حجم المجهول فيه أكبر كثيراً من حجم المعلوم. هذا موطن جماله. هنا يكمن مستقبله.
الفن الراقي إذن ينتج من تمايز وتطور أشكال فنية عن شبيهاتها، في بيئة تمارس الفن على مستوى الجذور. لو التزم كل فن جديد بقواعد الجودة الحاضرة وقت بزوغه، لما عرفنا «الجاز» ولا «الراب» في القرن العشرين، ولا استمرت «باليه روس»، ولأعدمنا «البوب أرت» في الفن التشكيلي. ولو عدنا في الزمن لوأدنا المدرسة الانطباعية، ولما شهدت ألمانيا والنمسا نهضتهما الموسيقية التي بنتها الحركة البروتستانتية على موسيقى الشارع «المبتذلة» بتصنيف نخبة زمانها.
خلال نهضة مصر الفنية في النصف الأول من القرن الماضي، نعرف من سيرة أم كلثوم وسيد درويش وعادل خيري ونجيب الريحاني، أنهم جميعاً تتلمذوا على حركة فنية قاعدية واسعة، في الكازينوهات والمسارح الشعبية المتجولة، ثم طوروها. وخلال أزمة السينما في العقود السابقة، أبقى الصناعة منتجون اتُّهمت أعمالهم بالابتذال أو المقاولات. ربما تكون كذلك بمعايير الفن المطلق، ولكنها بمعايير الصناعة وقود أساسي. لا بد من فهم الفارق بين الفن بوصفه قيمة مطلقة، وبين صناعة الفن أو زراعته. لو كان الأمر بيدي فإن أفضل طريق للحصول على فن القمة، هو إتاحة الظروف لتوسع القاعدة، وحريتها في إنتاج ما تشاء. السماد العضوي لا يؤكل، نعم، ولكنه عامل أساسي في طرح ثمار جيدة. لو حاولت أن تروي الفن بمياه معدنية فستفلس وتقضي على القطاع كله.
لا يرتقي الفن بديمومة إلا بالانتخاب الطبيعي، برواج تجارة الفنون بشكل عام. وبلغة الاقتصاد: بالمشاريع المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر. وكلما اتسع هامش الربح، واتسعت قاعدة المنافسة، سعى فنانون إلى تمييز أنفسهم، ويكون لديهم رأسمال يمكِّنهم من التجريب من دون خوف من الخسارة. أما التضييق الأخلاقي أو الطبقي على فن الشارع، فيؤدي إلى انحسار تجارته وتقلص الأرباح منه، وهذا يضر الفن الراقي قبل غيره؛ لأنه لن يستطيع وحده تحمل أعباء صناعته.