شهد العالم أواخر يوليو 2025 منعطفاً جديداً في مسار الأزمة الأوكرانية، حين اختار ديمتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، أن يلوّح علناً بنظام اليد الميتة الروسي، أحد أكثر أدوات الردع النووي إثارة للجدل منذ الحرب الباردة. هذه الإشارة جاءت رداً على إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن تحديد مهلة زمنية لوقف العمليات الروسية. وفي اليوم التالي مباشرة، لجأ ترامب إلى التصعيد المقابل، معلناً أنه أصدر أوامره بتحريك غواصتين نوويتين إلى مناطق قريبة من الحدود الروسية، وهي خطوة أثارت نقاشاً واسعاً حول ما إذا كانت تعكس قراراً عملياتياً أم مجرد رسالة سياسية محسوبة.
في تقديري، هذا التفاعل بين التهديد الروسي والرد الأميركي لا يمكن النظر إليه باعتباره جولة إعلامية عابرة، نحن أمام عودة صريحة إلى سياسة الرعب النووي التي ظن كثيرون أن العالم قد تجاوزها مع نهاية الحرب الباردة. الرسائل المتبادلة لم تكن استعراضاً للقوة بقدر ما كانت محاولة مدروسة لفرض إيقاع جديد على الأزمة الأوكرانية، إذ يدرك الطرفان أن ساحة الميدان لم تعد وحدها مسرح الصراع، بل إن لعبة الأعصاب أضحت الآن خط الدفاع الأول.
نظام اليد الميتة، الذي خرج إلى العلن في الثمانينات كآلية انتقام أوتوماتيكية تضمن توجيه ضربة نووية حتى في حال تدمير القيادة الروسية، ظل لعقود جزءاً من الظل، يثير الرهبة أكثر مما يكشف عن نفسه. واليوم، حين يُذكر في هذا السياق، فهو يُستدعى كسلاح رمزي قبل أن يكون أداة فعلية. ميدفيديف يعرف تماماً أن مجرد الإشارة إلى هذا النظام كافية لإعادة حسابات واشنطن والغرب، خاصة في لحظة تم فيها تضييق المساحة السياسية على موسكو من خلال المهل الزمنية والتعهدات الصارمة.
على الجانب الآخر، رد ترامب بتحريك الغواصات لم يكن خالياً من المعنى السياسي، هذه الغواصات، وهي العمود الفقري للثالوث النووي الأميركي، لم تكن غائبة عن المياه الدولية أصلاً، ولكن الإعلان عن تحريكها جاء في سياق تأكيد الإرادة السياسية لا تغيير واقع القوة. أراد ترامب أن يقول لموسكو وللرأي العام في بلاده، لن نترك هذه الورقة دون رد. وقد يبدو ذلك للبعض تصعيداً، لكنه في الحقيقة محاولة لتفادي تهمة التردد في لحظة ضغط داخلي وخارجي.
الحقيقة ما يثير القلق في هذه الجولة ليس مضمون التهديدات بقدر ما يثيره الأسلوب الجديد لإدارتها. فالانتقال بالخطاب النووي إلى العلن، وتحويله إلى مادة يومية على وسائل التواصل الاجتماعي، يعكس ضعف قنوات الاتصال الخلفية، ويجعل كل كلمة محسوبة أمام الجمهور. وهنا تكمن الخطورة، حين يُستدعى الرأي العام ليصبح شريكاً في معادلة القوة، يصبح القادة أكثر تشدداً وأقل استعداداً لتقديم تنازلات، لأن التراجع عن موقف معلن يساوي هزيمة سياسية.
وبلا شك فإن أخطر ما في هذا التطور أن سرعة التكنولوجيا العسكرية الحديثة قلصت زمن اتخاذ القرار، وزادت احتمالات الخطأ في التقدير. في عالم معقد ومتشابك، يكفي أن يُساء فهم رسالة واحدة أو أن يختل نظام إنذار آلي لتجد القوى الكبرى نفسها أمام مواجهة غير محسوبة. وإذا كان التاريخ قد سجل لنا أحداثاً كادت تتحول إلى كوارث، مثل أزمة الصواريخ الكوبية عام ١٩٦٢ أو الإنذارات الخاطئة في الثمانينات، فإن واقع اليوم أكثر هشاشة وتعقيداً بكثير.
برأيي، ما يجري اليوم ليس مجرد فاصل عابر من التصعيد، بل هو إشارة تحذير قوية إلى أن العالم بات يفتقد الحد الأدنى من آليات إدارة الخلافات الكبرى.
عندما تلجأ القوى النووية إلى التلويح بأسلحتها في القرن الحادي والعشرين، فهذا يعكس فشلاً ذريعاً للدبلوماسية التقليدية، وهو فشل ستكون تكلفته باهظة إذا لم يتم تداركه بسرعة، لأن معادلة الردع لم تعد تقوم فقط على التدمير المتبادل، بل على قدرة كل طرف على قراءة نيات الآخر بدقة، وهذه القدرة تتضاءل مع مرور الوقت.
لقد بات واضحاً أن هذه الأزمة تفرض على القوى الكبرى إعادة النظر في بنية النظام الدولي، وإحياء خطوط الاتصال الساخنة، ووضع آليات واضحة لإدارة الأزمات النووية بعيداً عن الأضواء، وإلا فإن العالم سيظل أسير لعبة محفوفة بالمخاطر، حيث يمكن لحسابات خاطئة أو سوء فهم بسيط أن تشعل مواجهة غير مقصودة.
أظن أن الدرس الأهم هنا هو أن القوة وحدها، مهما بلغت، لا يمكن أن تكون بديلاً عن العقل والحكمة، فلا الغواصات النووية ولا التهديدات الصريحة قادرة على توفير أمن حقيقي في غياب قنوات حوار موثوقة. وإذا كانت أزمة اليد الميتة الأخيرة قد كشفت شيئاً، فهي قد كشفت أن بنية الاستقرار العالمي أصبحت هشة إلى درجة تفرض على الجميع، من دون استثناء، أن يعودوا إلى لغة التفاهم قبل أن يصبح الوقت متأخراً جداً.