: آخر تحديث

قتلتهُم شعاراتُهم… وباركَ موتَهم خطباؤهم

3
3
3

في هذا الشرق العربي، لم يعد الموت حدثًا استثنائيًا ولا الشهادة لحظة مقدسة، بل صار الدم مادةً متكررة في نشرات الأخبار، وعنوانًا يُعاد تدويره في كل خطبة وصراخ، الموت هنا كثير، ومتنوع، ومجاني… أحيانًا باسم الطائفة، وأحيانًا باسم الوطن، وأحيانًا باسم القضية، وأحيانًا كثيرة باسم الله، لكن نتيجته واحدة، قبور تتزايد، وقادة يتضخمون.

إنّ معظم ما تعانيه الشعوب العربية لا يبدأ من الخارج، بل من داخلها، من بني جنسها الذين قرّروا أنهم وحدهم حراس العقيدة، ووكلاء الشهادة، وناطقون باسم الله كذبا وبهتانا. هؤلاء لم يكتفوا بحمل السلاح، بل حملوا مشروعًا للاستيلاء على الحياة، وسوّقوا الموت كقيمة عُليا، كأن البقاء جريمة، وكأن النجاة خيانة، فاستخدموا الدين كجسر لعبور الجماهير نحو الفخ، والشعارات كأدوات شحنٍ عاطفي، تُغلف بها الخسارات الكبرى، ويُغطّى بها فشل السياسة والقيادة والفكر.

من هنا، لم تكن الجماعات الدينية المسلحة يومًا مشاريع خلاص محض، بل مشاريع فوضى مقنّعة، تعمل لأجل من يدفع لها ويمولها إقليميا ودوليا، لقد استولت على مقدّرات المجتمعات حين أمّنت لها لحظة عاطفية مفخخة، ثمّ فجّرت كل ما تبقّى من مؤسسات الدولة والمجتمع والنسيج الأهلي. أدخلت الطائفية إلى تفاصيل الحياة اليومية، وفتحت نيرانها على الخصم والجوار معًا، ثم اختبأت خلف مقولات النصر المؤجّل والكرامة المختطفة.

والمفارقة المقيتة أن هذه الجماعات، حين تتساقط الواحد تلو الآخر، لا ترجع إلى خطاب المحاسبة أو المراجعة، بل تصرخ متهمة الشعوب نفسها بالخيانة والتقصير والخذلان، وكأن المواطن الذي لم يُستشر يوم قُرّر له الموت، هو ذاته المسؤول حين يرفض أن يُذبح دون إذن، وأن يصلب بلا ذنب. فجأة يصبح الإنسان العادي متّهماً لأنه لم يلبّ نداءات الجهاد، ولم يهتف خلف شعارات لم يفهمها، ولم يسجد على جراح لا تشبهه، ولم يمت في معارك لا تعنيه، ولم يسعى في قضية ليست قضيته ولم يكن يوما المتسبب فيها، ولا تمت له بصلة.

بلاشك أن الشعوب العربية، التي تُلام اليوم على عدم التضحية، هي ذاتها الشعوب التي تذوق يوميًا طعم الذل والبطالة والانهيار الاقتصادي، وتقف في طوابير الرغيف والبنزين والماء. هذه الشعوب لا تملك حتى ترف الحياة، لأنها بالكاد تنجو من الموت، فحين يُطلب منها أن تتحرّك دفاعًا عن قضايا لم تخترها، وعن قادة لم تنتخبهم، فإنها تفعل الشيء المنطقي الوحيد، تصمت، وتتأمّل، وتلعنهم جميعا سرا وجهارا.

الواقع اليوم يقول بوضوح، لم تعد الشعوب العربية بحاجة لمن يسوق عليها شهادات الشرف الوطني والديني، لقد شبعت خطبًا، وامتلأت بالنداءات، وخسرت أبناءها تحت رايات لا تحمل سوى الخداع والكذب. كل فصيل يُسوّق الموت كطريق إلى الجنة، يفعل ذلك على حساب البسطاء، الذين لم يجدوا مقعدًا في قطار التعليم، ولا سريرًا في مشفى، ولا وظيفة تضمن لهم الحياة بكرامة. فكيف يُطلب منهم الموت، وهم لم يُمنحوا حتى فرصة العيش؟

تحت كل شعار مقاومة، ثمة مقبرة مفتوحة، وتحت كل نداء للنفير، ثمة مأساة موثقة. لا أحد يطلب من القائد أن يشارك الموتى قبورهم، لكنه مطالب على الأقل بأن يصمت، وألا يُصدر شهادات الوطنية من شرفة فندقه، ولا يوزّع صكوك الشهادة والشرق والعزة من على طاولات البوفيه المفتوح. فحين يعلو صوت النحيب في غزة، لا يُعقل أن يتزامن مع مؤتمر للخطابة في الخارج، يتلو فيه المتحدث بياناته بينما يمضغ الفتوش ويشرب عصير الرمان.

الخطاب الذي يتهم الشعوب بالخيانة لأنه لم تُضحِ، هو خطاب ساقط أخلاقيًا، لأنه يتجاهل أنّ هذه الشعوب تُقتل يوميًا في ساحات أخرى، في حروب لا تُغطّى إعلاميًا، وفي مجازر يشارك فيها الجار لا الغريب. المواطن العربي اليوم لا يعرف من سيقتله غدًا، حزبه، طائفته، نظامه الديكتاتوري، ميليشيا مجاورة، أم تنظيم عابر للحدود. ولهذا، صار الموت كثيرًا جدًا، حتى لم يعد له معنى، وصار الحزن فوضويًا حتى لم يعد يُستوعَب.

ثم من أعطى هؤلاء القتلة الملثمين، الذين يتقنون فن التلاعب بالألفاظ، صلاحية التحدث باسم الأمة؟ من خوّلهم إصدار بيانات باسم شعوبٍ لم ترَ منهم سوى الخراب؟ ما الذي يميزهم عن الطغاة إن كانوا يمارسون القتل باسم الحق، ويستثمرون الدم باسم القضية، ويُعفَون أنفسهم من المحاسبة لأنهم مظلومون؟ كثيرون من هؤلاء لا يختلفون عن خصومهم في شيء، سوى في الشعارات. فكلا الطرفين يعبد الغاية، ويبرّر كل وسيلة.

بالحقيقة نؤمن، لا أحد يملك حق توزيع أوسمة الشهادة على جثث الآخرين، لا أحد يملك وكالة على السماء، ولا توكيلاً بتحديد الطريق إلى الجنة.

الشعوب ليست جسورًا نحو جنات الآخرين، ولا قرابين لمعارك ملوّثة بالمصالح والتجارة والتفاهمات السرية. فليمت من يريد الموت، ولكن لا يُطلب من الناس أن يهللوا وهم يُذبحون.لم تُزهق الأرواح إلا تحت لافتات الحق، ولم تُشرعن المجازر إلا بتواقيع منابر الفضيلة، الشعارات هي التي قتلت حين رفعتها الأيدي الخطأ، والخطب هي التي باركت حين تواطأت بالصمت أو التبرير. لقد مات كثيرون باسم "الحق"، لكن قليلًا من "الحق" كان معهم.

وكلما مات أحدهم، صفّق الخطيب، وارتفع الهتاف، وسقط المزيد.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.