حين وقعتُ صدفة على آلة "السنطور"، حسبتها للوهلة الأولى واحدة من تلك الآلات الموسيقية المهجورة، التي تُعزف في الزوايا المنسية، أو في حفلات صغيرة ينفث فيها العازف شجونه أكثر مما ينفث ألحانه. فإذا بها، كما يخبرنا "ويكيبيديا"، آلة موسيقية شرقية عتيقة، تعود جذورها إلى 2500 سنة قبل الميلاد، ولها وجهان – نعم، وجهان!– السفلي أكبر من العلوي، ولها 76 وتراً، تُربط كل أربعة منها في حزمة واحدة، بعضها من الحديد، وبعضها من البرونز والنحاس، وتأتي بألوان مختلفة: ذهبية وبيضاء.
تعكس هذه الآلة، من حيث لا تدري، كما لا ندري نحن السامعون، حال بعض المسؤولين، وجههم العلوي الودود، والسفلي الأكبر... للأوامر الصارمة! وبين الوجهين "5 ثقوب" – ربما تمثل الثقوب الخمسة التي يجب أن يمر منها المواطن العربي ليعيش!
أما الأوتار الـ "76" المقسمة إلى حزم، كل حزمة من "4 أوتار"، فهي تعكس حال معظم المواطنين العرب؟! كل مواطن "مربوط" في حزمة من القيود، والأوتار ليست مجرد خيوط، بل هي من "الحديد والبرونز والنحاس"! لا عجب أن "عزف" الأنظمة علينا يبدو كصرير معادن، موسيقى تشبه صرير أبواب السجون.
بل إن طريقة العزف نفسها تدعو للارتياب! تُعزف السنطور بـ "صبَّاع"، وعصاة تشبه الـ"خازوق" الصغير! وللصُباع، كما هو معروف، استخدامات متعددة، تبدأ بالإشارة... وتنتهي أحيانًا بما لا يُحتمل. لا عجب أن يضرب "الصبَّاع" (الإيماءات الخفية) تارة، ويُستعمل "الخازوق" (القمع) تارة أخرى، وكأننا أوتار ننتظر الضربة القادمة!
حتى اسم الآلة يحمل نبوءة: "السنطور"!فهي أوضح إشارة بأن على المواطن أن يمشي على "السطور" المرسومة له؟لا يحيد يميناً ("كده") ولا شمالاً ("كده")، وإلا استُخدم ضده "الساطور" – مجازياً أو حرفياً – فيفقد قدرته على الحركة ("لا حيعرف يلف ولا يدور")، تماماً كما يُفقد الإرادة!
بعد كل هذا، لم أستطع إلا أن أفتح عينيّ وأتمعن: هل "السنطور" آلة موسيقية؟ أم مخطط سياسي؟! فهذه المعلومات أكدت ما دار في خاطري حول هذه الآلة الشرقية القديمة (2500 سنة ق.م).
فمن جهة، الآلة "شرقية" خالصة، لا تمت بصلة لألة "الحنطور" التي يركب فيها الفرد ... ويتحنطر!! مما يعني أنها – ككثير من تراثنا – تم توظيفها اليوم لا للطرب، بل لقمع الإحساس، وتوجيه الذوق العام في اتجاه واحد… يشبه تمامًا اتجاه "السطر"، فإن خرجت عن السطر، ربما تركوا العزف واستُخدم ضدك "الساطور".
السنطور لا يرحم... هو يطالب كل من يقترب منه أن يكون له "وجهان"، وأن يعزف على كل "الأوتار"... حرفيًا ومجازيًا! وإن لم تفعل، فمصيرك إما الإقصاء، أو السخرية، أو التحول إلى عازف منفرد في زنزانة انفرادية.
أما عن الألوان، فكل شيء فيه مدروس:
إن كنت من أصحاب الأوتار البيضاء، فقد تكون محسوبًا على الطهر، أو السذاجة، أو حتى "عدم الفهم".
أما الذهبية، فهنيئًا لك! أنت مطرب السلطة، لا عازفها فقط.
لكنك في كلتا الحالتين – كما المواطن العربي في أغلب الأنظمة – لا بد أن تكون "مزدوج الوجه"، أو على الأقل "ملون النغمة"... فالنغمة الواحدة خطرٌ على الأمن القومي!
وهكذا ... أدركتُ أن هذه الآلة ليست مجرد أداة طرب، بل هي "المانيفستو الموسيقي للقمع العربي"! كيف لا وقد حوَّلتنا بعض الأنظمة إلى "سنطور بشري":
• وجوه مزدوجة، أوتار من حديد القوانين الجائرة،
• وألوان من النفاق الإجباري.
هذا التناقض الصارخ بين جمال الموسيقى وقبح الواقع هو ما دفعني لتأليف كتاب كامل حول هذه الازدواجية الوجودية، وسميته: "الوش التاني"، صدر عن دار "متون" عام 2024. فالوجه الآخر ليس مجرد وجه عابر، بل هو حياة كاملة يعيشها العربي المقموع بين صوت السنطور، وسوط الساطور.
وفي النهاية، يا سادة، نحن لسنا مستمعين لآلة السنطور... "نحن أوتارها". والعزف جارٍ، بقسوة، منذ زمن. والسؤال: متى ستنكسر أوتار الصبر؟ أو... متى سيتغير العازف؟
فلكي تعيش في معظم هذه الأنظمة، يجب أن تعزف بإصبع، وتتألم بعشرة، وتبتسم بوجه، وتبكي بوجهٍ آخر...
وإذا فكرت يومًا أن تقول الحقيقة على "السطر"، فاحذر:
قد تُقطع أوتارك، وتُصادر عصاتك، ويُنزع عنك "اللون"...
وتتحول من مواطن يعزف... إلى مواطن يعزف عنه الجميع.
"السنطور"... والبحث بين السطور!
مواضيع ذات صلة