في عالم يترنح على حافة التوترات الجيوسياسية المتصاعدة، يبرز اسم منظومة عسكرية روسية غامضة ومخيفة تُدعى "اليد الميتة"، والمعروفة أيضًا بنظام "المحيط" (Perimeter)، إنها ليست مجرد سلاح، بل تجسيد حقيقي لـ"آلة يوم القيامة" التي تضمن لروسيا القدرة على توجيه ضربة نووية انتقامية شاملة، حتى في السيناريوهات الكارثية التي قد تُدمّر فيها قيادتها المركزية بالكامل. هذا النظام يُمثّل حجر زاوية في العقيدة النووية الروسية، ويهدف بشكل أساسي إلى ردع أي عدوان نووي من خلال ضمان الدمار المتبادل المؤكد.
نشأت فكرة "اليد الميتة" في خضم الحرب الباردة، في حقبة كان فيها شبح الضربة النووية الأولى يلوح في الأفق بقوة، وكان التحدي الأكبر يتمثل في سيناريو "القيادة المقطوعة الرأس"، حيث يمكن لضربة نووية أولى أن تشل مراكز القيادة والتحكم في الاتحاد السوفيتي، مما يحول دون إطلاق أي رد نووي. ولمواجهة هذا الخطر الإستراتيجي، صُممت "اليد الميتة" لتعمل بشكل مستقل تمامًا كآلية ردع أوتوماتيكية تضمن ردًا كارثيًا على أي هجوم نووي شامل، بغض النظر عن مصير القيادة البشرية.
تعتمد فعالية منظومة "اليد الميتة" على شبكة معقدة من أجهزة الاستشعار المنتشرة عبر الأراضي الروسية الشاسعة، إذ تقوم هذه المستشعرات برصد دقيق لمؤشرات وقوع هجوم نووي شامل، على سبيل المثال، ترصد هذه الأجهزة الهزات الأرضية الناتجة عن الانفجارات النووية، وتُحلّل الومضات الإشعاعية، كما تراقب فقدان الاتصال مع المراكز القيادية الرئيسية. وفي حال رصد النظام لهذه المؤشرات الحاسمة، وتأكده من وقوع ضربة شاملة وفقدان القيادة لقدرتها على التواصل، فإنه يُفعّل تلقائيًا دون تدخل بشري. وعند التفعيل، يرسل النظام رمزًا مشفرًا إلى منصات إطلاق الصواريخ الباليستية العابرة للقارات المنتشرة في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك الصوامع المحصنة تحت الأرض ومنصات الإطلاق المتحركة. ويعتقد خبراء الدفاع أن هذه العملية قد تتضمن إطلاق صواريخ "توبول" العابرة للقارات، والتي تعمل بدورها كصواريخ قيادة موجهة الأوامر لعدد هائل من الصواريخ الأخرى لتنطلق نحو أهداف محددة مسبقًا. ونتيجة لذلك، يضمن هذا الإجراء الآلي ردعًا مخيفًا يهدف إلى إقناع أي مهاجم محتمل بأن تكلفة العدوان النووي ستكون باهظة وغير مقبولة.
تُحيط تفاصيل عمل منظومة "اليد الميتة" بسرية بالغة، مما جعل الاستخبارات الغربية عاجزة عن اختراقها بشكل كامل على مدار عقود. ومع ذلك، تُشير التطورات الأخيرة والتصريحات الروسية إلى أن النظام قد شهد تطورًا كبيرًا ليصبح أكثر فاعلية وقدرة. بالإضافة إلى ذلك، تُعزّز هذه السرية من هالة الردع المحيطة بالمنظومة، حيث يبقى الغرب في حيرة من أمره حول قدراتها الحقيقية ومدى فاعليتها القصوى، مما يزيد من تعقيد أي حسابات إستراتيجية محتملة.
تُعتبر "اليد الميتة" أحد أضخم أنظمة الردع النووية عالميًا، كونها تُجسّد بجلاء مفهوم الدمار المتبادل المؤكد (MAD). هذا المفهوم الجوهري يقوم على أن أي هجوم نووي على روسيا سيُقابل حتمًا برد انتقامي كاسح، يضمن القضاء على الطرف المعتدي، مما يجعل فكرة شن هجوم نووي عبثية وغير مجدية على الإطلاق.
اكتسب الحديث عن "اليد الميتة" في الآونة الأخيرة زخمًا كبيرًا، لا سيما بعد التعديل الذي أجراه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على العقيدة النووية الروسية، حيث لم يعد استخدام السلاح النووي مقتصرًا على التعرّض لهجوم مباشر فحسب، بل امتد ليشمل أي "تهديد إستراتيجي يهدد مصالح روسيا الحيوية أو وجودها". والأهم من ذلك، أن هذا التعديل يتضمن تفعيل أنظمة الرد الآلي مثل "اليد الميتة"، ما يُعزّز القدرة على الرد التلقائي في حال تعرّض القيادة الروسية لضربة شاملة، مما يضيف طبقة جديدة من التعقيد إلى ديناميكيات الردع النووي.
وبالرغم من أن موسكو ترى في "اليد الميتة" ضمانًا لأمنها ورادعًا لا غنى عنه ضد أي عدوان، فإن وجود نظام بهذا الحجم والقدرة يثير مخاوف عالمية عميقة. ولعل فكرة إطلاق عشرات الصواريخ النووية تلقائيًا دون تدخل بشري تفتح الباب أمام احتمالات التصعيد الخارج عن السيطرة، أو احتمال وقوع أخطاء تقنية كارثية قد تؤدي إلى حرب نووية عالمية غير مقصودة.
في ظل الأزمات الدولية المستمرة وتزايد الانقسام، تبقى "اليد الميتة" تذكيرًا قاتمًا بالقوة المدمرة للأسلحة النووية، وبالضرورة القصوى للحفاظ على الاستقرار الدولي. ختامًا، إن القدرة الفريدة لهذه المنظومة على تحويل "يوم القيامة" من مجرد افتراض إلى واقع محتمل، تُلزم المجتمع الدولي بالعمل بلا كلل نحو نزع السلاح النووي وتجنب سيناريوهات الصراع التي قد تُطلق العنان لـ"اليد الميتة" وتُلقي بظلالها على مستقبل البشرية جمعاء.