إن أية متابعة دقيقة لما جرى عند مداخل أو ما يسمى محاور السويداء المنكوبة لا تفضي إلى سؤال عمّا إذا كانت النيران قد اشتعلت، بل تفتح العيون على الطريقة التي جرى فيها إعداد الحريق، ومن أدار إشعال مواقده، تحت لافتات كاذبة من الانتخاء والثأر. إذ لم يكن العدوان الدموي وليد لحظة، بل نتيجة تجهيز طويل قامت به جهات أرادت تحويل العشيرة رغم إيجابيات دلالاتها وأدوارها تاريخياً - كواجهة خطابية - إلى أداة صدمة، وفتح الباب أمام جحافل مغيرة - في عباءتها فحسب - لا تمتّ إليها ولا إلى السويداء ولا لأهلها بصلة، بل جاءت تسطو وتنهب وتقتل تحت شعارات ملوّثة. الهزيمة التي مُني بها أولئك المعتدون على أبواب الجبل لم تغلق بوابات الحرب بل الغزو الأعمى، بل فتحت بوابات خلفية لإعادة تدوير الفوضى، بتمويل وتخطيط من قوى لا يضيرها أن تُمحى المدن مقابل إعادة رسم الخرائط، على طريقتها، ومن خلال أدواتها.
من هنا فإنَّ مشهد ما بعد الهزيمة أكثر خطرًا من الهجوم نفسه، إذ تسلّلت أصوات كثيرة تطالب بإعادة "تفعيل" العصبية العمياء، لا ردًّا على العدوان، بل تغطية له، وتمهيدًا لإعادة خلط الأوراق. فالعشيرة التي يُراد لها أن تغسل يدها بالدم النظيف للضحايا، تحاول أن تقنع جميعهم بأن سكاكينها مخصصة فقط لمن يهدد الوطن، بينما هي نفسها تفتح خزائنها لمشاريع تفتيت الوطن باسم "الكرامة المستعادة" وبدعوى الدفاع عن هيبة الدولة، من قبل من يفتقد شروط تمثيلها، بل لا يمتلكها البتة.
إذ تُستدعى مفردات العشيرة في لحظة مفصلية من التاريخ السوري، لا بوصفها نداء قرابة أو درع كرامة، بل باعتبارها آلية تشغيل لحرب أهلية بملامح محلية وسيناريو دولي، تُفتح الأبواب الخلفية لما يشبه تقسيمًا داخليًا لا يحتاج إلى مؤتمر ولا إعلان، بل إلى سيوف تُشهر من خاصرة المجتمع نفسه. وهكذا يُسلَّح الداخل ليأكل الداخل، تحت رايات لا تُشبه علماً، وصرخات لا تشبه نداء وطن، بينما يجري التسويق لتلك "النهضة الدموية" بوصفها عودة للهوية، فيما هي في جوهرها تجهيز بارد لحرب أهلية مُصمَّمة كي تنفجر ساعة الصفر، حين تنطفئ آخر ومضة ضوء في عيون الأطفال.
من هنا فإنَّ ما يُرسم حاليًا لا يُعيد إنتاج العشيرة بصورتها التقليدية، بل يُفصّل لها خريطة جديدة، تقسمها بين مُكلّفٍ بالأداء ومُستهدَفٍ بالاستنزاف، بين من أُعدّ ليكون اليد، ومن اختير ليكون الرأس المقطوع، لأن هناك الآن عشيرتان في عشيرة واحدة: عشيرة مغرر ببعض أفرادها وعشيرة تحترم شروطها وأخلاقياتها، ضمن إطار تمزيق ما لم يمزق، وتفتيت ما لم يفتت. إذ لم تعد العشيرة جسمًا واحدًا كما يُظن، بل ساحة تفكك حقيقي مؤلم، تتقاتل فيها الولاءات للعابر أو الوطني الإنساني النير، وتنقسم على خطوط دقيقة مرسومة بسكاكين الهوى السياسي والطائفي والمناطقي. فثمة مشيخات تُبرق للسلطة إشارات الطاعة، وأخرى ترفض أي مخطط لاستهداف السوريين.
إنَّما الأخطر أنَّ الإجهاز على العشيرة لا يأتي من خارجها، بل يأتي - كما نرى - من داخلها تمامًا، حيث يتم تصنيف أبناء الرابطة الواحدة إلى "مع" و"ضد"، ويُشرعن الانقضاض على الفرع المتمرّد بوصفه انحرافًا عن المصلحة العليا، ويتم سحق الألسنة الرافضة بحجّة تلوّث الدم أو شبهة التمرّد. إذ يتم زرع "الفتك الداخلي" كوصفة تطهير، يُستخدم فيها خطاب الشرف لا لحماية الكرامة، بل كحبل مشنقة لمن لا يريد الدخول في قطار الموت المجاني، وقد رأينا اليوم صرخة أحد أبناء العشائر وهو يقول: لقد قتل الأمن العام ولدي وهو من مواليد2007 لأنه رفض الانخراط في تلبية النداء الرسمي - أو التنادي - الذي يراد أن يقال إنه عفوي.
وهكذا، تتحول العشيرة إلى مخطط تقسيم حيّ، لا يحتاج إلى طائرات ترسم خرائط ولا خبراء جيوسياسة، بل إلى أدوات داخلية تنفذ المهمة بأقل ضجيج، إذ يُستبدل مشروع الدولة بمشروع السلالة، ويتم إلغاء الحق العام لصالح حق "البيت" أو "البيّ"، ويُعاد تعريف العدو من الخارج إلى "ابن العم الخارج عن الصف"، كي نكون أمام سوريتين، في أقل تقدير: سوريا رافضي الطائفية وسوريا أكثرية السوريين.
من هنا، فإنَّ الخرائط لا تُرسم بالحبر، بل تُخطّ بالخناجر على خاصرة المدن. وهكذا تتحول العشيرة من خيمة حماية إلى خندق قتالي، ومن موروث اجتماعي إلى منصة إطلاق نار. إذ ليس الانتخاء مجرد صرخة في الهواء، بل كلمة سر تُمرّر بها تعليمات العسكرة، وتسحب من المجهول عناصر مستعدة للفتك والنهب والتمثيل، كما حدث في الهجوم على السويداء، حيث سُرقت هواتف وذهب وبيوت، وتحوّلت المدينة إلى سوق غنائم مفتوحة لجيش العشيرة العائد من الهزيمة.
ولهذا فإن المأساة - وفق تصورنا - لم تكن في عدد القتلى وحده، بل في الطريقة التي تم بها تثبيت الرعب كسياسة معتمدة، إذ جرى إلقاء بضعة شبان من الطوابق العليا، وإطلاق النار على الجثث الملقاة كأنها أهداف في ساحة رماية، في استعادة صريحة لخطاب داعش ومشهدياته الترويعية الإرهابية الأولى. هكذا يعود التنظيم - لا باسمه بل بأدواته - عبر جحافل مقنّعة بعصبية العشيرة، وتُمرّر أبشع فصول الانحطاط تحت مسمى الانتخاء، حيث لم تخلُ الاعتداءات من إشارات صريحة بل فتوى قبيحة إلى "سبي النساء"، لا في اللفظ فحسب بل في السلوك الميداني، إذ تم تهديد العائلات، وترويع الأمهات، ونهب الذهب وكأنهم في موسم غنائم، لا في زمن دولة.
ولم يكن المشهد في هجمته الثانية أقل تضليلاً، إذ دخلت الفصائل النظامية نفسها إلى جانب المجموعات العشائرية المسلحة، في محاولة لتقديم نسخة محسّنة من الفوضى، لكنها هذه المرة جرى تصويرها على أنها "استعادة هيبة"، بينما كانت في حقيقتها ترجمة جديدة لكذبة قديمة: كذبة تحرير بأسلحة وتروس الحديد، تلك التي تبيّن لاحقًا أنها لم تكن تحريرًا بل تسليمًا واستلامًا، وها هو من هندس تلك المسرحية يريد الآن إحراز نصرٍ آخر رخيص، يدفع فيه من تبقى من فصائل ومن انخرط من العشائر إلى واجهة الذبح الرمزي، بينما يقف هو خلف الستار، يدوّن بلاغات النصر وخرائط الهزيمة باسم الآخرين. وهنا يجب التأكيد أن العشائر ليست سلة واحدة، بل طيف متنوع، فيها من بقي عفيفًا عن الدم، وفيها من زجّ بنفسه أو زُجّ به في سياق لم يكن له فيه قرار، ولا رغبة ولا مدعاة اعتزاز بل تبادل ابتزاز.
تأسيسًا على ذلك، يتضح أن من يدير اللعبة لا يُقيم وزنًا لدم، ولا لقرابة، بل يوزّع أدوارًا بين القتلة، ويعيد إطلاق الوجوه المماثلة من عناوين جديدة عرفناها يوم انتفاضة آذار (مارس) 2004، وحين استُشهد الشيخ الدكتور محمد معشوق خزنوي، فاندفعت الأيادي ذاتها لسرقة محال الكرد في قامشلي وسري كانيي والحسكة، تمامًا كما تحاول أن تُعيد تموضعها اليوم في خريطة التوحش، وإن بلحية مرخية وصوت متطيف.
إذ إنّ الذين كانوا أدوات رخيصة لدى النظام في التحريض على الكرد والدروز، لا يزالون يتحركون باسم جديد، ولكن بوظيفة قديمة: تحريض المكونات على بعضها تحت غطاء من الشعارات العاطفية، مع ضمان سكوت السلطة المؤقتة في دمشق التي لم تكن عاجزة عن لجم الغزاة، بل متواطئة بالصمت. إنما الأخطر أن هذا يتم وسط تبادل إشارات واضح بين أنقرة ودمشق وبعض العواصم الأخرى، التي ترى في الدروز عقبة جغرافية قبل التهام الكرد، وفي الكرد هدفًا أسلس للإجهاز عليهم، خاصة حين يُقسَّمون عمدًا ويُخترق قرارهم من الداخل.
من هنا فإنَّ كل قطعة سلاح عادت من جبهة السويداء خائبة، أعيد توجيهها لداخل المدينة ومحيطها عبر جهاديي فصائل أو المغرر بهم من بعض العشائر من دون أن يمثلوا ضميرها الرافض للفتنة أية كانت، وذلك ليس لإسعاف ما تبقّى من الوطن، بل لتصفية الحسابات المؤجلة، وتبييض سجلات بعض المتورطين، الذين قرروا فجأة أنهم من أهل الكرامة، بعد أن كانوا صدى لمشاريع إقليمية تعِد وتمنح الغنائم مقابل الدم.
وهكذا، يفإننا وجهاً لوجه أمام مخاضات جديدة تفضي-في التالي- إلى تشكيل البنية الاجتماعية كما يشتهي المهندس الأجنبي، أو المشغل، لا كما يُفترض أن تبنى الأوطان. يتم تحويل المشايخ إلى ضباط، وبعض منفلتي العشائر إلى فرق أمنية، والمناطق إلى جزر أمنية قابلة للانفصال أو البيع أو المساومة. فلا مشروع سياسي يُطرح، ولا عقد اجتماعي يُعرض، بل انتخاء بصيغة أمر عمليات، يُنفذ دون مراجعة.
إذ إن حربًا أهلية لا تبدأ بقرار علني، بل بإعادة توزيع الأدوات، ووضع مفردات مثل "العار، النخوة، الغزو، الثأر" في مقدمة الخطاب، في إطار براق. تجميلي، مديكر، ومن ثم تحريكها بين عناوين قرى وأحياء مدن على شكل نداء جماعي: هيا إلى الجهاد! بينما تُجهّز خلف الستار كاميرات التوثيق، ومنصات التبريكات، ومسودات تكريس تقسيم المدن والبلدات، بعكس ما دعا الحريصون إليه من لامركزية تحفظ كرامات وحقوق السوريين، لاسيما بعد ارتسام ملامح خريطة رؤى واصطفافات جديدة، نتيجة تسلط العقل الأحادي الرافض للآخر.
أجل. إن ما يجري الآن لا يُشبه خلافًا محليًا ولا مواجهة حدودية، بل نُسخة أولى من تمرين أهلي كبير، تُراد له عدّة بروفات قبل إعلان العرض الكامل. لا شيء يُفسّر صمت دمشق إلا إدارته لكل ما يتم من غرف عمليات خاصة، ولا شيء يُسوغ إشارات أنقرة التي ترى في الدروز حاجزًا يجب كسره قبل بلوغ العمق الكردي، ولا في البلد الفلاني الذي يبرمج رؤوس أولي الأمر، للتحرك بما يعادي أمن واستقرار ومصالح السوريين، بعد عقود من اغترابهم تحت نير الاستبداد البائد.
وهكذا، فإن من يتوهّم أن السويداء كانت هدفًا بحد ذاته يقرأ الحدث بعين واحدة، إذ إن المقصود هو خلق سابقة: أن تَجْرؤ قوة عشائرية، مرتزقة كانت أو مموَّهة، على الهجوم الكامل على مدينة كاملة، دون أن تُقابل بقرار وطني شامل. إنها الحفرة الأولى تحت أس عمارة الدولة. ومن يسقط فيها، سيفتح الطريق لحرب يتصارع فيها جميعهم باسم جميعهم، وتختفي فيها البلاد تحت هدير الخيول وصيحات "الكرامة" التي لم تكن يومًا شرفًا، بل تمهيدًا لذبح الكائن والتاريخ والجغرافيا تحت سيوف الغرائز.