: آخر تحديث

عندما يتحول البدو إلى ديكور في الأردن

2
2
2

بعد انتهاء المشاجرة الطلابية في الجامعة الأردنية الأسبوع الماضي وفصل 21 طالباً من الجامعة، أخذت الأطراف تتقاذف الاتهامات والتحليلات حول أسباب العنف في الجامعات الأردنية، وتكثر المقالات والدراسات والآراء دون أن يلامس أحد جذر المشكلة في المجتمع الأردني. فمنذ أن تأسس الأردن سنة 1921 كانت القبائل البدوية تسيطر على شرقي الأردن، وكان أهلها فرساناً شجعاناً، وكانوا أصحاب ثراء وقوة ومنعة. حاولت إمارة شرق الأردن أن تستوعب قوة هؤلاء الفرسان وتمنعهم من الغزو على القبائل الأخرى المجاورة في الدول العربية الحديثة، فوطّنتهم وشكلت منهم نواة الجيش العربي وقوات البادية والهجانة، وأصدرت قوانين منع الغزو، وتقربت منهم وفوضت لهم الأراضي الشاسعة في بواديهم، وسيطرت عليهم شيئاً فشيئاً إلى أن تمكنت منهم بالحب والتراضي، فاستقدمت الإنجليزي كلوب باشا ليتعامل معهم بعد نجاحه في العراق في السيطرة على القبائل العراقية بعد أن تعلم العربية بلهجة البدو ولبس ملابسهم وأصبح وكأنه واحد منهم، واستمالهم باستبدال الغزو بالجيش والسيف بالبندقية والفرس بالسيارة. ولكي يحببهم بالعسكرية أبقى على ملابسهم كما هي وأضاف على العقال شعار الجيش العربي، وهكذا استطاعت الحنكة الإنجليزية تحويل القبائل العربية في البادية من معادين للدولة إلى حماة الدولة والنظام الأميري القائم.

بعد أن تأكدت الدولة الأردنية الحديثة من أن البدو الذين لم تستطع الإمبراطوريات الغازية السابقة للمنطقة العربية السيطرة عليهم منذ الإمبراطورية الرومانية والبيزنطية والعثمانية، حيث كانت تخشاهم حسب كتب التاريخ أكثر مما تخشى الدول المجاورة لها، بنت الدول الغازية لشرق المتوسط القلاع الحصينة بين المناطق القروية الزراعية التي يعيش فيها الفلاحون وبين البدو سكان الصحراء لاتقاء غارات البدو المدمرة. واصطفت القلاع على حافة الأرض الزراعية من الشرق بدءاً بإربد والحصن وجرش وعمان والقسطل وزيزيا والقطرانة والكرك والشوبك والطفيلة ومعان والعقبة على خط واحد لصد هجمات البدو على تلك الدول التي لم يقبل البدو سيطرتها على أراضيهم، وحكموا أنفسهم بأنفسهم طوال فترات التاريخ. فقد قُسّم الأردن منذ اليونان والرومان والبيزنطيين والصليبيين والعثمانيين إلى منطقتين: الغربية للفلاحين وهي أرض خصبة، والشرقية للقبائل العربية. وكان طريق تراجان الخط الفاصل بينهما، ومد العثمانيون خط سكة الحجاز على طول هذا الخط من دمشق إلى الحجاز، واليوم يقسم الأردن على أساس غربي السكة وشرقي السكة. فلم تبنِ أي إمبراطورية مدناً في مناطق القبائل إلا حضارة الأنباط على مر التاريخ.

عندما تأكدت الدولة الأردنية عن طريق كلوب باشا بأن البدو لن تقوم لهم قائمة لأنهم دخلوا في سلك الدولة، تركتهم بعد ذلك وشأنهم بعد أن تدفق اللاجئون الفلسطينيون عام 1948 على الأردن من كل صوب وحدب، فأنشئت لهم المخيمات ووطّنوا وجنّس أغلبهم، وقدمت لهم المساعدات، وانشغلت الدولة بهم وبالموجات اللاحقة من اللاجئين ونسيت البدو، فتحول هذا الشعب العربي البدوي الشرس والمقاتل العنيف إلى مواطنين فقراء يهيمون على وجوههم بعد أن كانوا أصحاب ثراء وعزة ومنعة وقوة.

بعد أكثر من مئة عام على قيام إمارة شرق الأردن أخذ البدو – تلك القبائل العربية العزيزة – يرون أنفسهم في وطنهم مجرد ديكور في خلفية الشاشة، وفي مؤخرة المشهد، حيث يرون الآخرين من الفئات الأخرى من قرويين وفلاحين ولاجئين يرتدون ملابسهم وثيابهم وشمغهم وعقالهم وعباءاتهم، ويهزجون أهازيجهم، ويقدمون فلكلورهم بصور لا تليق بهم، ويصورون مسلسلات بدوية بلهجات مصطنعة وعادات تشوه تاريخهم، وهم يتفرجون على المشهد من بعيد وكأنهم طارئون على الأردن. عندما يرون اللباس الرسمي للبادية يرتديه السفرجية في المقاهي والمطاعم والحمالون والعتالون على أبواب الفنادق كنوع من السياحة، وعندما يعودون إلى مضاربهم من أماكن عملهم وجامعاتهم ويستمعون إلى روايات الأجداد وقصص البطولة والفروسية التي كانوا يحيون بها، ويعودون ثانية إلى جامعاتهم يرون أنفسهم أنهم لم يعودوا هم ذاتهم. من هنا ينشأ العنف الجامعي، ذلك العنف غير المبرر، والذي يحدث لأبسط الأسباب، ولكنه يعبر عن مكنون غزير من اللوعة والخذلان في وطنهم الأردن، الذي اختارهم ولم يختاروه، وقام على ظهورهم، ثم أزيحوا من المشهد واستلم زمام المبادرة والقيادة والرئاسة أناس آخرون لا يعرفونهم ولا يشاركونهم ذات القيم وتلك الأعراف.

إنه إحساس بالغبن والغربة داخل الوطن، يظهر على شكل عنف بين الفترة والأخرى، فيطلق عليه المحللون أوصافاً عدة وأشكالاً مختلفة دون ملامسة جوهر الحقيقة. فالحقيقة هي يا سادة أنه عندما يتحول المواطن من فارس نبيل إلى شخص فقير تحدث المشكلة، وعندما توضع فئة بكاملها على الرف وتُستبدل بفئات أخرى تحصل المشكلة، وعندما يشعر الفارس أن لا مكان لممارسة فروسيته النابعة من جذور عميقة في التاريخ يتحول إلى فعل ضار يهلكه ويدمر المجتمع. فالقبائل العربية البدوية ترى اليوم أن كل وزارة تُشكل في الأردن يكون أفرادها من غربي سكة الحديد ويُرش عليها بعض من بلقاوية عمان وبني حسن، وتخلو من البدو، وإذا ما أُشرك واحد من البدو فيوضع في السياحة أو الآثار أو الرياضة أو الشباب وما شابه. وتكمل كل وزارة بنصف من أهالي فلسطين. من هنا ينبع الغضب والعنف الجامعي، فكيف للقبائل التالية التي حكمت شرقي الأردن مئات السنين – بني صخر، السردية، السرحان، الحويطات، بني عطية، بني خالد، العيسى – تلك القبائل التي تعيش على أكثر من 90 بالمئة من أراضي الأردن، تخلو وزارات المملكة الأردنية الهاشمية من واحد على الأقل من كل قبيلة، ويُعين الوزراء عن طريق الأنسباء والأقرباء من الطرف الآخر، وأبناء العمومة وعلى الوراثة وحتى الجد الخامس، ويُحسب لتلك القبائل المذكورة 6 مقاعد في البرلمان من أصل 130 مقعداً نيابياً تمثل قبائل البادية أصل هذه الأرض، وحكامها السابقون بستة مقاعد، موزعة مقعدين للبادية الشمالية واثنين للوسطى ومقعدين للبادية الجنوبية، ويحصل اللاجئون على نصف المقاعد، ويأخذ الفلاحون والشركس والشيشان النصف الآخر من المقاعد. وتسألون لماذا العنف في الجامعات؟ إنه قهر مزمن، قهر كان أوله عتب، وثانيه رجاء، وثالثه احتجاج، ورابعه عنف جامعي، وأتمنى أن لا يأتي خامسه أو سادسه.

إنَّ كل المؤتمرات والتحديث الاقتصادي والاجتماعي والسياسي التي تقوم بها الحكومات الأردنية هي قشور لا تفضي إلى شيء، وهي ضياع للوقت وتعمية مقصودة عن الإصلاح الحقيقي، وهي سياسة يتبعها البعض لخلط الأوراق للإبقاء على المكاسب التي تحصلت مع طول الزمان. فإذا لم يشارك أهل البلاد الأصليون في تلك المؤتمرات، ويكن البدو أصحاب القرار، فلا ترجُ خيراً من ذلك، وستبقى قرارات شكلية غير قابلة للتنفيذ، وقد يكبر العنف الجامعي ويتطور إلى عنف مجتمعي، وبعد ذلك فالله ولي السلامة. من هنا، فإن ما يحدث في الجامعات خطير جداً، يمكن له في لحظة معينة أن يتحول إلى عنف مجتمعي، لأن لا أحد يقبل أن يبقى ديكوراً في مسرحية يلعب أبطالها أدوارهم على خشبة ليست أرضهم، ويبقى أصحاب الأرض معلقين على الجدران، والله من وراء القصد.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.