: آخر تحديث

من نواب الشعب إلى نواب السلطة

2
2
2

منذ أول دورة انتخابية بعد عام 2003، دخل العراق تجربة برلمانية يُفترض أن تكون حجر الأساس لدولةٍ ديمقراطيةٍ فيدرالية تُبنى على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها، غير أنّ الممارسة على الأرض كشفت عن انحرافٍ خطير في مفهوم النيابة ووظيفتها، إذ تحوّل البرلمان تدريجيًا من سلطة تشريعية رقابية إلى ساحةٍ تغلب فيها المصالح الفئوية، فظهر نوعان من النواب: نواب الخدمات ونواب التشريع، والفرق بينهما هو الفرق بين من يخدم المواطن ومن يخدم الدولة.

الحرمان من الخدمات الأساسية – كهرباء، ماء، صحة، تعليم، وفرص عمل – جعل المواطن يبحث عن منقذٍ شخصي بدل ممثلٍ مؤسسي، فاستغلّ المرشحون هذا الحرمان ليتحوّلوا إلى "وسطاء خدمات" بين الناس والوزارات، يقدمون الوعود ويقايضون الصوت الانتخابي بوظيفةٍ أو مشروعٍ خدميٍ محدود. ومع مرور الوقت، ترسّخ هذا النمط ليصبح هو الأصل، فتراجعت الوظيفة التشريعية إلى الهامش، وصار البرلمان أقرب إلى مكتب خدمات موسّع يخدم الدائرة الانتخابية أكثر مما يخدم الدولة. بهذا الشكل، انقلبت العلاقة: لم يعد النائب ممثلًا عن الأمة، بل متعهّدًا لمصالح مناطقية أو عشائرية تُستخدم كوقودٍ للدعاية السياسية المقبلة.

في المقابل، تراجعت الكفاءات القانونية والفكرية القادرة على تحويل مواد الدستور إلى قوانين عملية. أكثر من خمسين مادة دستورية ما تزال معلقة، وفي مقدمتها تلك المتعلقة بتوزيع الثروات الطبيعية وتنظيم العلاقة بين المركز والإقليم وتأسيس مجلس الاتحاد، وهو أحد أهم ركائز النظام الفيدرالي. لقد تحوّل هذا المجلس المنتظر إلى ملف مؤجَّل عمدًا، لأنّ قيامه يعني خلق توازن بين المحافظات والإقليم من جهة والحكومة الاتحادية من جهةٍ أخرى، وهو ما لا ترغب به القوى المهيمنة على القرار المركزي التي تسعى لإبقاء الدولة تحت قبضة واحدة. وهكذا ظلّ العراق حتى اليوم بنصف برلمانٍ مشوّه، لا يكتمل فيه البناء الدستوري، ولا تُطبَّق مواده الأساسية التي تعني انتقال الدولة من الشكل المركزي إلى الفيدرالي الفعلي.

ما يحدث اليوم ليس مجرّد خللٍ في الممارسة، بل مشروع سياسي واضح لإعادة إنتاج الدولة المركزية التي عرفها العراقيون خلال العقود السابقة، ولكن هذه المرة بثوبٍ مختلف. فبعد أن كانت المركزية تُبرَّر بالعقيدة القومية للحزب الواحد، أصبحت تُمارس اليوم باسم الأغلبية المذهبية، أي بمركزيةٍ طائفيةٍ جديدة تُعيد احتكار القرار السياسي والاقتصادي في بغداد وتُهمّش الأطراف والمكوّنات. الأخطر من ذلك أنّ النظام السابق الذي أُسقط قبل أكثر من عقدين ما زال يحكم من قبره عبر قوانينه، إذ أبقت الحكومات المتعاقبة على عشرات القرارات والتشريعات التي صدرت عن مجلس قيادة الثورة المنحل، وهي في معظمها تمجّد الدولة المركزية المطلقة وتمنحها صلاحيات تتقاطع مع جوهر الدستور الجديد.

في موازاة هذا الانحدار، جرى تطويع البرلمان ليصبح أحد أذرع القوى المسلحة التي تشكّلت بعد عام 2003. فالميليشيات التي نشأت تحت عناوين "المقاومة" أو "الحشد" أو "الفصائل العقائدية"، سرعان ما أنشأت واجهاتٍ سياسية تخوض الانتخابات وتصل إلى البرلمان لتُمثّل مصالحها من داخله، لا لتخدم الدولة أو الشعب. وهكذا، أصبح البرلمان مظلةً قانونيةً للنفوذ المسلح، وأداةً لتشريع ما يخدم مراكز القوة في الميدان، فيما ضاعت الحدود بين القرار السياسي والسلاح. وتحت هذه المظلة، تكرّست عقلية القوة بدل القانون، وأصبح التشريع نفسه رهينة توازنات الفصائل والتحالفات المسلحة، في سابقةٍ لم يعرفها العراق منذ قيام دولته الحديثة.

ولم تتوقف محاولات المركزية الجديدة عند حدود التشريع، بل امتدّت إلى محاولاتٍ حثيثة لإضعاف إقليم كردستان، سواء عبر تعطيل مستحقاته المالية أو التدخل في ملفاته النفطية والإدارية أو عبر حملات سياسية تهدف لتشويه فكرة الفيدرالية. كما وُضعت العراقيل أمام أي محافظة تحاول التحول إلى إقليم، كما حصل في البصرة وصلاح الدين، في حين ينص الدستور صراحة على هذا الحق. إن هذا السلوك يؤكد أن المشكلة ليست مع الإقليم وحده، بل مع مبدأ اللامركزية ذاته، ومع أي محاولة لتوزيع السلطة والثروة خارج قبضة المركز.

إن التحول من برلمانٍ مشرّعٍ ورقيب إلى برلمانٍ تابعٍ وخادمٍ للسلطة التنفيذية والمسلحة، هو أخطر ما يهدد التجربة الديمقراطية العراقية. فما لم يُستعد التوازن بين المركز والأطراف، وبين التشريع والخدمات، وبين الدولة والسلاح، فإن العراق سيسير نحو نظام مركزي جديد بواجهةٍ ديمقراطيةٍ مزيّفة. إنها عودة إلى "الدولة القديمة"، ولكن هذه المرة ليست بشعارات البعث القومية، بل براياتٍ طائفيةٍ تُعيد إنتاج الاستبداد ذاته. وهكذا، يُعاد تشكيل النظام – لا على أسسٍ وطنيةٍ فيدرالية، بل على قاعدةٍ حزبيةٍ ومذهبيةٍ ضيّقة – لتبقى الحقيقة المرة: البرلمان في العراق لم يعد برلمان الشعب، بل برلمان السلطة الذي يُشرّع ما يُبقيها، ويُعطّل ما يحرّر الدولة منها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.