في العاشر من شهر تشرين الأول (أكتوبر) وفق التقويم العبري، تتوقف الحياة في الكيان الصهيوني، وتسود شوارع القدس سكينة غريبة، وكأن المدينة تنتظر اعترافًا جماعيًا بخطاياها. إنه يوم كيبور أو عيد الغفران، أقدس الأيام في الموروث الديني اليهودي، وخاتمة أيام التوبة العشرة التي تبدأ برأس السنة العبرية (روش هاشناه).
حسب ما ورد في سفر اللاويين، هذا اليوم فريضة دهرية يذل فيها الإنسان نفسه ويكفّر عن خطاياه بالصلاة والصوم، لا فرق بين مواطن أو غريب، فالكل مدعو للوقوف أمام الرب في لحظة حساب سنوية. يصوم اليهود فيه 25 ساعة كاملة بلا طعام أو شراب، فقط خضوع صامت لما يعتبرونه "آخر فرصة لتغيير المصير".
لكن في الزمن الحديث، حيث يتقاطع المقدس مع البيروقراطي والغيب مع التقنية، تشكّلت طقوس جديدة تعكس روح العصر. اعتاد المتدينون التوجه في هذا اليوم إلى حائط البراق (الذي يسمونه المبكى زورًا) ليضعوا رسائلهم الورقية في شقوقه، وكأنهم يراسلون الله عبر حجارة المدينة القديمة. هناك تتكدّس الأمنيات الصغيرة بجوار الخطايا الكبرى التي لا يُفصح عنها، وتتجاور طلبات المرضى بالعفو مع أمنيات الفتيان في الحب والثروة.
الغريب ليس الطقس الديني نفسه، بل كيف أصبح البريد الإسرائيلي وسيطًا بين الناس والله. تتلقى سلطة البريد سنويًا آلاف الرسائل الموجهة إلى "إلوهيم" أو "يهوه"، ويقوم الموظفون بفتحها وتحويلها إلى الحائط في طقس رمزي أقرب للمسرح الديني منه للإيمان.
إحدى هذه الرسائل كانت من فقير يطلب من الله خمسة آلاف شيكل. رقّت قلوب الموظفين فجمعوا له ما استطاعوا – 4300 شيكل – وأرسلوها إليه. بعد أيام، وصلت رسالة شكر من الرجل نفسه إلى الله تحمل جملة لا تُنسى: "أنا ممتن لأنك أجبت دعائي، لكن أرجوك لا ترسل الأموال مرة أخرى عبر البريد، فقد سرقوا 700 شيكل".
إنها قصة تحمل ما يكفي من السخرية والرمزية، عن الإنسان الذي يشكو الوسيط لا المرسِل، وعن كيف تتحول العلاقة مع المقدس أحيانًا إلى شكوى إدارية.
مع تطور التكنولوجيا، لم يتوقف الخيال عند حدود البريد. ظهرت صفحات على "فيسبوك" تتيح للناس إرسال أمنياتهم إلى الحائط افتراضيًا. يكتب المستخدم أمنيته، ويتكفل القائمون على الصفحة بطباعتها وتعليقها في الحائط المقدس، وكأن الروح يمكن أن تمر عبر الكابل الضوئي، وكأن الحجارة تتعامل مع الملفات الرقمية.
تظهر صورة الحائط في خلفية هذه الصفحات، موهمة الزائرين بأن طلبهم قد اقترب خطوة من السماء. لا أحد يعلم إن كانت هذه الرسائل تصل أو إن كان الرب يقرأ تعليقات "فيسبوك"، لكن المؤكد أن الإنسان ما زال يبحث عن طريقة يكتب فيها آلامه للغيب، حتى لو كانت بحروف مطبوعة بإعلان ممول.
مع التطورات المتسارعة في الذكاء الاصطناعي، يمكننا أن نتخيل سيناريوهات قد تتجاوز مجرد إرسال الأمنيات عبر "فيسبوك". على سبيل المثال، هل يمكن لنموذج لغوي كبير، تم تدريبه على نصوص دينية وأدعية، أن يصبح وسيطًا رقميًا جديدًا بين الإنسان والغيب؟ قد يطور البعض تطبيقات تتيح للمستخدمين صياغة أدعيتهم بشكل تفاعلي، حيث يقترح الذكاء الاصطناعي صيغًا مناسبة، أو حتى يقوم بـ"تحسين" الدعاء ليكون أكثر فعالية وفقًا لقواعد معينة.
الأمر لا يتوقف عند صياغة الدعاء. يمكن لخوارزميات الذكاء الاصطناعي تحليل كلمات الأمنيات المتراكمة، سواء في شقوق الحائط أو على المنصات الرقمية، لتحديد الأنماط الشائعة للخطايا أو التطلعات الإنسانية. قد يقدم هذا التحليل رؤى مثيرة للاهتمام حول الاحتياجات الروحية الجماعية للمجتمع. هل سنصل إلى مرحلة تُستخدم فيها البيانات الضخمة المستخلصة من أدعية الملايين لتطوير مؤشرات غفران افتراضية؟
بل يمكن تخيل روبوتات آلية صغيرة تقوم بوضع الرسائل المطبوعة في شقوق الحائط بدلًا من الموظفين البشريين. تصبح العملية برمتها مؤتمتة بالكامل، من كتابة الرسالة إلى وضعها في المكان المقدس. هذا يثير تساؤلات عميقة حول أصالة الطقس والتجربة الروحية. هل تفقد الطقوس معناها إذا أصبحت مجرد عمليات رقمية تؤديها الآلات؟
فهل تغير الإنسان، أم أن طرقه فقط هي التي صارت أكثر رقمنة وذكاء اصطناعيًا؟
وهل ما زال الغفران يُشترى بالتوبة، أم بات سلعة بريدية تمر عبر موظفين أو ربما عبر خوارزميات وتُخصم منها رسوم خدمة رقمية؟


