بعد مرور أكثر من عام على الحرب في غزة، والتي شكلت خطأً استراتيجيًا لخامنئي، تتكشف اليوم حقيقة الانهيار الاستراتيجي للنظام الإيراني بشكل لم يعد ممكنًا إخفاؤه. فما حذرت منه المعارضة الإيرانية مبكرًا حول "الهزيمة الاستراتيجية" أصبح واقعًا يشهده كل مراقب محايد، حيث تنهار الادعاءات التي روّج لها النظام لعقود طويلة.
لقد بدأت تتآكل مفاهيم طالما تغنّى بها النظام مثل "محور المقاومة" و"الهلال الشيعي" و"العمق الاستراتيجي". ويشير محلّلون ووسائل إعلام عربية، التي تتابع عن كثب تداعيات سقوط نظام الأسد في سوريا، إلى أن الأوراق الإيرانية تحترق تباعًا.
فقد ذكرت "سكاي نيوز عربية" في (14 كانون الأول - ديسمبر 2024): «بالرغم من تباهي بعض المسؤولين الإيرانيين في الماضي القريب بأن إيران تسيطر على أربع عواصم عربية، إلا أن مكانتها في الشرق الأوسط تراجعت خلال الأشهر القليلة الماضية، وحدثت تغييرات جيوسياسية وعسكرية جذرية في المنطقة. توحي نتائج هذا التراجع بأن ربيع إيران وصيفها وحتى خريفها في المنطقة قد تبدد، ويبدو أنها على أعتاب شتاء سياسي قاسٍ. لقد احترقت أوراق النظام الإيراني الواحدة تلو الأخرى بعد هجوم السابع من أكتوبر».
هزيمة استراتيجية وأخلاقية
لم تقتصر خسارة النظام الإيراني على الجانب الاستراتيجي، بل امتدت لتشمل هزيمة أخلاقية مدوية. فدعمه اللامحدود لنظام بشار الأسد القمعي وتجاهله لتطلعات الشعب السوري نحو الحرية جرّده من أي مصداقية لدى الشعوب العربية.
وفي هذا السياق، أشارت تحليلات قناة "الجزيرة" في (22 كانون الأول - ديسمبر 2024) إلى أن الجمهورية الإسلامية لحق بها خسارة أخلاقية أيضًا بسبب دعمها اللامحدود للنظام السوري وتجاهلها لتطلعات الشعب السوري للتحرر من الاستبداد. ويبدو أن تراجع النفوذ الإيراني هو نتيجة لاستراتيجيات تفتقر إلى البدائل والفهم العميق للتحولات السريعة في منطقة الشرق الأوسط. وقد بدأ هذا التراجع بخسارة أخلاقية، حيث لم يكن هناك اتساق في فهم مفهوم "الدفاع عن المظلومين والمستضعفين"؛ لأن هيمنة المستبدين لا تختلف عن هيمنة المحتلين.
هذه الهزيمة الأخلاقية تنعكس مباشرة على الأرض، وتزيد من التحديات التي يواجهها النظام. ووفقًا لتلك التحليلات، فإن هذا التراجع في النفوذ في سوريا ولبنان ليس سوى البداية، كما أنه يمثل انهيار أحد أهم ركائز نظرية الأمن القومي الإيراني بعد الحرب الإيرانية العراقية. ويبدو أن العراق — بناءً على المعطيات المتاحة — هو الوجهة التالية، حيث سيواجه النفوذ الإيراني تحديات وربما اختبارات قاسية.
من جانبهم، كان الفلسطينيون أول من شعر بهذه الهزيمة الأخلاقية، كونهم الضحية الأولى لسياسات النظام الانتهازية. وفي هذا الصدد، كتب الكاتب الفلسطيني حميد قرمان في "العرب اللندنية" (21 كانون الأول - ديسمبر 2024): «إن تدخل النظام الإيراني عبر عناصره التابعة لحركة الجهاد الإسلامي في مناطق الضفة الغربية لا يعود بالنفع على الفلسطينيين، بل العكس تمامًا... إن الشعب الفلسطيني، الذي يرفع الآن صوته عاليًا ضد التدخلات المسلحة، يدرك جيدًا أن هذه الأعمال المرتبطة بقوى إقليمية، لا تكترث لقدسية حياة الفلسطينيين ومصيرهم، لن تجلب سوى كوارث جديدة».
بغداد: آخر معاقل "ولاية الفقيه"؟
بعد سقوط نظام الأسد، أصبح العراق الساحة الرئيسية التي يتركز عليها مستقبل النفوذ الإيراني. وقد أثار التصريح الهام لإبراهيم الصميدعي، المستشار السياسي لرئيس الوزراء العراقي، تساؤلات جدية حول مستقبل الميليشيات المسلحة، حيث قال: «إذا لم نبادر بأنفسنا لحل الجماعات المسلحة، فإن الآخرين سيفعلون ذلك بالقوة. لا يمكن للعراق أن يظل سيفًا لمحور المقاومة (التابع لخامنئي) بعد سقوط نظام الأسد وإضعاف حزب الله في لبنان».
صحيفة "الشرق الأوسط" أجابت على هذه التساؤلات في (18 كانون الأول - ديسمبر 2024)، مشيرة إلى أن تصريحات الصميدعي قد تعبر عن رؤية الحكومة العراقية. ونقلت عن مصادر مقربة من "الإطار التنسيقي" الشيعي قولها: «هناك حديث واسع داخل العراق عن "إرادة دولية" مصممة على إنهاء ازدواجية الدولة والجماعات المسلحة. وقد تعزّز هذا التوجه بالتطورات الإقليمية، بما في ذلك أحداث غزة، وإضعاف حزب الله، وسقوط نظام البعث في دمشق، مما أدى إلى انهيار ما يعرف بـ "محور المقاومة" بقيادة إيران».
بل إن بعض المحللين يذهبون إلى أبعد من ذلك، ويعتبرون أن «بغداد هي البوابة الأخيرة التي تتحصن خلفها "ولاية الفقيه"». وتضيف "العرب اللندنية" في (15 كانون الأول - ديسمبر 2024): «مسار تدريجي بحسابات زمنية دقيقة، يدفع بإيران "ولاية الفقيه" نحو سجن ستبقى أسيرته إلى الأبد... هذا المسار مرّ ببيروت، وعبر الحدود، ووصل إلى عمق دمشق، ومن فوق جبل قاسيون أطل على بغداد ليرسم على سهلها المنبسط خريطة الوصول إلى طهران».


