: آخر تحديث
الشرق الأوسط بعد الهدنة الباردة:

هل نعيش سلامًا أم خوفًا؟

2
2
2

ليست المنطقة العربية في سلامٍ حقيقي، ولا هي بعدُ في حربٍ معلنة. كأنّها تقف على حافة زمنٍ متردّد بين الرماد واللهيب، بين هدير الدبابات وصمت المفاوضات. إنّها «هدنة باردة»؛ عنوان مرحلة جديدة لا تُكتب في بيانات، بل تُقرأ في الوجوه والخرائط، وفي الخوف الذي يسكن البيوت أكثر مما يسكن الحدود.

منذ عقود، اعتاد الشرق الأوسط أن يتنقّل من حربٍ إلى هدنة، ومن اتفاقٍ إلى انهيار، حتى بات يعيش استقرارًا هشًّا يشبه وقوف الزجاج على حافة الطاولة. لم يعد السؤال: متى تبدأ الحرب؟ بل: هل انتهت أصلًا؟ فالمشهد الراهن يوحي بأنّ البنادق صمتت فقط لتتكلّم العقود، وأنّ النار تغيّرت أدواتها لا غاياتها.

صمت الخوف
تبدو الهدنة اليوم كستارٍ يخفي وراءه قلقًا عميقًا. في فلسطين، لم تُطفأ جذوة المواجهة بل تغيّرت قواعدها؛ وفي لبنان، تتراجع أصوات الحرب دون أن تغيب احتمالاتها؛ وفي سوريا واليمن والسودان، يختلط الركام بالانتظار، كأنّ الشعوب صارت رهينة «سلامٍ مشروط» لا تملكه ولا تحدّد مداه.

الخوف هو القاسم المشترك في هذه المرحلة: خوف الأنظمة من الانفجار، وخوف الشعوب من المجهول، وخوف الخارج من أن يُولد من رحم الفوضى لاعب جديد يعيد رسم التوازنات. السلام، حين يُبنى على الخوف، لا يُزهر استقرارًا، بل يمدّ في عمر الارتباك.

من الحرب إلى إدارة الصراع
التحوّل الأبرز في الشرق الأوسط اليوم ليس انتهاء النزاعات، بل تحوّلها إلى إدارةٍ دائمة. لم تعد القوى الإقليمية تسعى إلى نصرٍ حاسم، بل إلى «توازنٍ قابلٍ للعيش»؛ فكل طرف يريد أن يبقى قويًا بما يكفي ليمنع الآخرين من الانتصار الكامل. هذه السياسة التي توصف في الدوائر الغربية بـ«الهدنة الباردة» تقوم على منع الاشتعال من دون إطفاء النار.

في هذا السياق، يصبح الاقتصاد أداة الحرب الجديدة، والإعلام جبهةً موازية، والدبلوماسية ميدانًا لتبادل الرسائل المشفّرة. حتى العواصم التي كانت تُعتبر محايدة دخلت في لعبة الاصطفافات، فيما تتقدّم التكنولوجيا على الجغرافيا، وتصبح الكلمة أحيانًا أكثر خطرًا من الرصاصة.

لبنان في قلب التناقض
يشكّل لبنان نموذجًا مصغّرًا لهذا الشرق المتوتّر. بلدٌ بلا حربٍ رسمية، لكنه يعيش تحت تهديدها الدائم؛ بلا استقرارٍ فعلي، لكنه ينجو في كل مرة بأعجوبة. الهدنة اللبنانية ليست سياسية فحسب، بل نفسية وثقافية أيضًا: الناس يعيشون بين الحنين إلى الحرب كذاكرةٍ تحدّد هويتهم، والرغبة في سلامٍ لا يأتون إليه إلا متعبين.

في مقاهي بيروت القديمة، تسمع أحاديث عن الانفجار القادم أكثر مما تسمع عن المشاريع القادمة. كأنّ الخوف أصبح جزءًا من الوعي الجمعي، وكأنّ البلاد تعلّمت كيف تتنفّس القلق دون أن تموت به.

تحوّل المعنى: من الصراع إلى اللايقين
في الهدنة الباردة، لا تُعرّف الدول نفسها بما تملك من حدود أو جيش، بل بما تستطيع أن تتجنّبه من انهيار. صار البقاء نفسه إنجازًا. وحتى المواطن البسيط الذي لا يفهم خرائط النفط والتحالفات، يشعر بأنّ شيئًا غير مطمئن يتشكّل حوله: الأسعار، الهجرة، اللغة، التعليم، كلّها تتأثر بحربٍ غير مرئية.

هذا اللايقين يصنع ثقافة جديدة في المنطقة: ثقافة الحذر. الكتّاب يكتبون بنصف جرأة، الصحف تنشر بنصف حقيقة، والمجتمعات تعيش بنصف أمل. ومع ذلك، يظلّ في القلب شعور بأنّ ما نعيشه ليس نهاية التاريخ، بل مرحلة بين مرحلتين: بين خوفٍ قديم وسلامٍ لم يولد بعد.

أيّ سلام نريد؟
السلام الحقيقي ليس أن تتوقّف المدافع، بل أن تُشفى الذاكرة. ليس أن يُوقّع الزعماء على ورق، بل أن يتصالح الإنسان مع واقعه ومع جاره ومع نفسه. هذا السلام لا يُفرض من فوق، بل يُبنى من تحت، من وعي الناس بأنّ الأمن لا يأتي من التحالفات بل من العدالة، وأنّ الحرية لا تُهدى بل تُنتزع بالمعرفة.

الشرق الأوسط اليوم أمام امتحان الوعي. لم تعد مشكلته في السلاح وحده، بل في العقل الذي يبرّر كلّ شيء باسم الخوف. وإذا لم يتغيّر هذا العقل، فسنظلّ نعيش في هدنةٍ مؤقتة، نُسمّيها سلامًا كي نُقنع أنفسنا بأنّ الحرب انتهت.

نحو أفقٍ آخر
وربما، في مفارقةٍ مؤلمة، تكون الهدنة الباردة فرصةً لليقظة. فالصمت الطويل يعلّم الإصغاء، والركود يفضح العطب. لعلّنا نحتاج إلى هذا الفراغ بين الحروب لنكتشف أننا نستطيع أن نعيش بلا عدوّ، وأنّ معنى الانتصار الحقيقي هو القدرة على بناء مدرسة، أو فكرة، أو كتابٍ يُنقذ جيلًا من الكراهية.

إنَّ الشرق الأوسط لن يُشفى بالوعود ولا بالحدود، بل بالاعتراف بأنّ ما نحتاجه ليس وقف إطلاق النار، بل بدء إطلاق الحياة. فحين يتحوّل الخوف إلى وعي، يصبح السلام ممكنًا، وحين يتعلّم الإنسان العربي أن يثق بصوته أكثر من زعيمه، تبدأ المرحلة التي طال انتظارها: سلامٌ لا يحتاج إلى هدنة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.