في أعقاب سرقة في متحف اللوفر بفرنسا، برزت أصوات تستغل هذه الحادثة لتبرير سرقات الآثار في متاحف أخرى، بحجة: "إذا كانت دولة متقدمة مثل فرنسا تعاني من السرقة، فلماذا نُحاسب على ما يحدث لدينا؟" هذه الحجة ليست سوى مثال صارخ على آلية دفاعية تستخدمها بعض الأنظمة للهروب من مسؤولية إخفاقاتها. هذه الظاهرة، التي يمكن تسميتها "تبرير التخلف"، تعكس نمطًا سلوكيًا يعيق التقدم ويكرس الفشل، سواء في المجالات الإدارية أو السياسية.
استراتيجية التبرير بالتقصير
عندما تواجه الأنظمة ذات الرقابة الضعيفة فضائح مثل السرقة، الفساد، أو سوء الإدارة، فإنها غالبًا تلجأ إلى استراتيجية "التبرير بالتقصير". بدلاً من الاعتراف بالفشل والعمل على معالجته، تبحث عن أمثلة مشابهة في أنظمة متقدمة لتقول: "انظروا، الجميع يفعل ذلك". على سبيل المثال:
· في قطاع التعليم، عند تسريب امتحانات دراسية، يُبرر المسؤولون ذلك بالقول إن التسريبات تحدث حتى في الأنظمة التعليمية المتطورة، متجاهلين الحاجة إلى تحسين آليات الرقابة.
· في الإدارة المالية، عند اكتشاف اختلاس، يُدّعى أن الفساد موجود حتى في المؤسسات العالمية الكبرى، مما يصرف الانتباه عن غياب الشفافية المحلية.
· في البنية التحتية، عند انهيار جسر أو طريق بسبب سوء الصيانة، يُبرر الأمر بأن الكوارث تحدث في كل مكان، دون التركيز على تطبيق معايير صيانة صارمة.
هذه الاستراتيجية تهدف إلى:
· تخفيف حدة النقد الموجه للنظام.
· تحويل الانتباه عن الجوهر الحقيقي للمشكلة.
· خلق ذرائع لعدم تحمل المسؤولية.
· تسويق فكرة أن المشكلة عالمية وليست محلية.
مغالطة المقارنة
المقارنة بين إخفاقات الأنظمة المتقدمة وتلك ذات الرقابة الضعيفة هي مغالطة منطقية واضحة، لأنها تتجاهل الفروق الجوهرية في السياق. الفارق ليس في وقوع الحادثة، بل في كيفية التعامل معها. على سبيل المثال:
في نظام متقدم، إذا وقعت سرقة في متحف، يتم الإعلان عن الحادثة علنًا، يُجرى تحقيق مستقل، ويُحاسب المسؤولون، مع تطبيق إصلاحات فورية.
في نظام متخلف، قد يتم التعتيم على الحادثة، أو تحميل المسؤولية لأفراد غير ذي صلة، دون إصلاح النظام الأساسي.
الاختلافات الرئيسية تكمن في:
وجود أنظمة مساءلة ومحاسبة مستقلة وفعّالة.
درجة الشفافية في الإعلان عن الحادثة ونتائج التحقيق.
إجراءات التحقيق والمحاكمة العادلة.
الإصلاحات النظامية لمنع تكرار الحادثة.
ثقافة المساءلة مقابل ثقافة التبرير
المجتمعات المتقدمة تبني ثقافة المساءلة، حيث يُعتبر أي فشل رقابي استثناءً يستدعي التحقيق والإصلاح. على سبيل المثال، إذا انهار جسر بسبب سوء الصيانة في نظام متقدم، يتم نشر تقرير علني يوضح الأسباب، وتُتخذ إجراءات فورية لتحسين معايير السلامة. أما في الأنظمة ذات الرقابة الضعيفة، فإن الفشل يُحوّل إلى ظاهرة عادية، بل ويُبرر كجزء من "الواقع العالمي". هذا التحويل من الاستثناء إلى القاعدة يكرس استمرار الممارسات السيئة ويمنع التقدم.
الجانب السياسي: تكريس التسلط والظلم من خلال التبرير
في السياسة، تُستغل أحداث مثل اقتحام الكابيتول الأمريكي (2021) لتبرير قمع المعارضة، بحجة أن "حتى الديمقراطيات تُعتقل فيها شخصيات سياسية". لكن هذه المقارنة مغالطة، إذ أدت الحادثة في أمريكا إلى تحقيقات مستقلة ومحاسبة أكثر من 1,000 شخص، بينما تُستخدم في الأنظمة التسلطية لتبرير الاعتقالات التعسفية دون محاكمات عادلة، مما يكرس الظلم ويعيق الديمقراطية.
عقلية الرئيس ترمب الإدارية: استخدام الحق الدستوري والتوازن بين السلطات
يعكس الرئيس دونالد ترمب، في فترتيه الرئاسيتين (2017-2021 و2025-...)، عقلية إدارية تعتمد على استغلال السلطة التنفيذية لفرض أجندته، سواء بمواجهة الإعلام أو المؤسسات الأكاديمية. في الفترة الأولى، هاجم وسائل الإعلام واصفًا إياها بـ"الأخبار الكاذبة"، وحاول إعاقة صفقة AT&T لشراء Time Warner، وأصدر قرارات تنفيذية مثيرة للجدل مثل حظر السفر. في الفترة الثانية، تصاعدت الإجراءات بقطع تمويل NPR وPBS، رفع دعاوى ضد ABC وCBS، وحظر صحفيين، إلى جانب تجميد 2.2 مليار دولار من تمويلات هارفارد في أبريل 2025، مدعيًا معالجة معاداة السامية.
هذه الإجراءات، التي وصفتها منظمات حقوقية بـ"حرب على الحريات"، أثارت مخاوف من تآكل الديمقراطية.لكن المؤسسات الدستورية أعادت التوازن؛ أبطلت المحاكم الفيدرالية قرارات مثل حظر السفر في 2017، وفي سبتمبر 2025، ألغت المحكمة الاتحادية تجميد تمويل هارفارد كـ"غير قانوني وانتقامي"، مع إعادة التمويل فورًا. كذلك، أدت الاحتجاجات العامة وقرارات قضائية إلى إعادة الوصول للصحفيين المحظورين.
هذه الأمثلة تبرهن أن ترمب يمارس حقه الدستوري، لكن السلطات التشريعية والقضائية تمارس حقها في التوازن، مما يمنع التسلط—على عكس الأنظمة المتخلفة التي تستغل هذه الأحداث لتبرير قمعها دون تصحيح، قائلة: "أين حرية الإعلام في واشنطن؟".
نتائج خطيرة
آلية التبرير تؤدي إلى عواقب وخيمة على المجتمع والمؤسسات:
تكريس التخلف: تبرير الفشل يمنع تطوير الأنظمة ويحافظ على الوضع الراهن.
تعطيل الإصلاح: بدلاً من معالجة المشاكل، تُهدر الفرص في البحث عن مبررات.
فقدان الثقة الاجتماعية: التبرير المستمر يقلل من ثقة المواطنين بالمؤسسات، مما يزيد من الشعور بالعجز.
هدر الموارد: تبرير الفساد يؤدي إلى هدر الموارد العامة، مما يعيق الاستثمار في التعليم، الصحة، والبنية التحتية.
تثبيط الابتكار: التركيز على التبرير بدلاً من الإصلاح يثبط الرغبة في التجديد والتطوير، خاصة في السياسة حيث يُكرس التسلط الديمقراطية كـ"وهم بعيد المنال".
حلول للخروج من دائرة التبرير
لكسر حلقة التبرير وبناء أنظمة أكثر فعالية، يجب تبني خطوات عملية:
. تعزيز الشفافية: نشر تقارير دورية عن الأداء الحكومي والإخفاقات، مع توفير قنوات علنية للإبلاغ عن المشاكل.
· تفعيل المساءلة: إنشاء هيئات رقابية مستقلة تضمن محاسبة المسؤولين دون تدخل سياسي.
· التوعية الثقافية: نشر ثقافة المساءلة عبر التعليم ووسائل الإعلام لتعزيز وعي المجتمع بأهمية تحمل المسؤولية.
· الاستفادة من التكنولوجيا: استخدام أنظمة رقمية لتتبع الأداء الحكومي والمالي، مما يقلل من فرص التلاعب والتبرير.
· تشجيع المبادرات المجتمعية: تمكين المجتمع المدني من مراقبة الأداء الحكومي والمطالبة بالإصلاحات، خاصة في السياسة لتعزيز الديمقراطية المحلية.
ختاماً، استخدام إخفاقات الآخرين لتبرير إخفاقاتنا ليس سوى هروب من المواجهة الحقيقية مع مشاكلنا. الدول المتقدمة تتقدم لأنها تواجه إخفاقاتها بشجاعة وتعمل على إصلاحها، بينما تتخلف الدول الأخرى لأنها تبحث عن مبررات للبقاء في دائرة التخلف. الفارق بين المجتمعات ليس في عدم وقوع الأخطاء، بل في كيفية الاستجابة لها.
إن تحمل المسؤولية والاعتراف بالإخفاق هو أول خطوات الحل، بينما البحث عن تبريرات للفشل هو تأكيد للاستمرار فيه.