: آخر تحديث

الكاتب والحساسية الأخلاقية في التعبير العام

2
1
1

الأدب يمنح الكاتب مساحة فريدة للتعبير عن النقد والملاحظة، ويتيح له الكشف عن الظلم أو القسوة أو الجهل من خلال الشخصيات والمواقف الرمزية، دون أن يتحول إلى اتهام جماعي أو إساءة لمجموعة بأكملها. في النص الأدبي، يصبح النقد جزءًا من البناء الفني، محمولًا بالخيال والرمزية، ويتيح للقارئ اكتشاف المعاني العميقة والتفاعل معها بوعي وتفكير مستقل. التعميم، بالمقابل، يسلب الأفراد فرادتهم ويحوّل النص إلى خطاب جامد، يفقد قوته الجمالية والإنسانية، ويحوّل النقد من أداة للوعي إلى أداة للإدانة المباشرة.

الكاتب، سواء في نصوصه أو في لقاءاته وظهوره الإعلامي، مطالب بأن يكون واضح الرأي دون تجريح، ناقدًا دون تعميم، ومؤمنًا بإنسانية الجميع حتى عند نقد واقع أو ثقافة معينة. الأمثلة الأدبية الكلاسيكية توضح هذا بجلاء: دوستويفسكي، عبر تصويره للتناقضات البشرية والجريمة، أو غابرييل غارسيا ماركيز، من خلال تصويره للفقر والطغيان، يعرضان مشاهد صادمة ومؤلمة، لكنه لا يوجهان إساءة جماعية لشعوب بأكملها. النقد الأدبي هنا يظل أداة لاستقصاء الحقيقة الإنسانية، لا أداة لإلقاء اللوم على الآخرين.

حتى الكتاب الحائزون على جوائز نوبل، ليسوا بمنأى عن الخطأ في التعبير المباشر. فالتصريح غير الحميد، العنصري البغيض، يبيّن الفرق الجوهري بين النقد الرمزي في الأدب، القائم على الشخصية والموقف، وبين التصريحات المباشرة باسم الكاتب، التي تتحمل مسؤولية أخلاقية واجتماعية كاملة. مثل هذه الحالات تُظهر أن الكاتب، مهما بلغت مكانته الأدبية، يظل معرضًا لسوء الفهم أو الانتقاد إذا لم يحكم التعبير بالوعي الأخلاقي والحساسية تجاه الآخرين.

الوعي الأخلاقي لا يحد من حرية الإبداع، بل يعززها. فهو يمكّن الكاتب من معالجة موضوعات حساسة، مثل العنف أو الظلم أو الانقسامات الاجتماعية، بأسلوب يفتح الحوار بدلًا من إغلاقه، ويقدّم النقد بطريقة تجعل القارئ مشاركًا في التفكير بدلاً من أن يكون مجرد متلقٍ لتوجيهات أو أحكام مطلقة. الكاتب الملتزم بمسؤوليته يصبح صوتًا إنسانيًا حقيقيًا، قادرًا على نقل الخبرة الإنسانية بطريقة تضيء ولا تحجب، تطرح الأسئلة دون فرض الأحكام المطلقة، وتبرز القيم الإنسانية المشتركة في عالم متنوع الثقافات والتجارب.

إنَّ الحساسية الأخلاقية في التعبير العام ليست رفاهية، بل شرط جوهري لمصداقية الكاتب، سواء في الأدب أو في حياته العامة. هي ما يجعل الكلمة أداة للإبداع والإلهام، لا منصة للتجريح والتعميم، وتبرز قدرة الأدب على الجمع بين الجمال والضمير، بين النقد البنّاء والمسؤولية الإنسانية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.