: آخر تحديث

في فقه طائفية المحارم: الهتك المفضوح

1
1
1

بالأمس وأنا أقلب صفحات (فيس بوك) صادفت منشوراً فيه صور للسيد أحمد الشرع (رئيس المرحلة الانتقالية للجمهورية العربية السورية)، صور تجمعه ببوتين، وماكرون، وترامب، وأردوغان، وغيرهم من السياسيين. وثمة صورة أخرى لبعض رموز المرحلة الراهنة المعارضين للسيد الشرع. المنشور حصل على تفاعل كثير من المتابعين، وهذا أمر غير مستغرب، ولا سيما أن الصفحة لأحد الإعلاميين المعروفين والمشهورين في الداخل السوري. لكن ما يلفت الانتباه فيه ليس الصور ولا عدد المتفاعلين المبتهجين والداعمين للمرحلة الراهنة، وإنما التعليق الذي صدّره صاحب الصفحة على تلك الصور: "الحمد لله الذي أعزنا وأذلكم".

وكان هذا المنشور عقب زيارة السيد الشرع لروسيا، الزيارة التي أثارت استغراب البعض وسخرية المعارضين الجدد. وهذا المنشور (بتعليقه المقتضب الدال) يكشف وجهاً من وجوه المشهد السوري الراهن، أو هو يعبر عنه، وهذا الأدق لأن كثيراً من الوجوه والمظاهر أمست مكشوفة لا تحتاج كشفاً. إنه الوجه الطائفي المقيت الذي يبيت فيه الوطن (البقعة الجغرافية) والمواطن هو الخصم والعدو، ويصبح النصر قد تجلى في هزيمة هذا العدو وحسب. فالذين سخروا من الزيارة لم يكن منبع سخريتهم حبهم لوطنهم وكرههم لبوتين – وأكثرهم لا يكرهه ولم يره يوماً عدواً بل كان يعدّه حليفاً – وإنما هي سخرية من العهد الجديد الذي يصافح قاتل الأمس. ومن الطرف المقابل، فإن ابتهاج مؤيدي العهد الجديد لم يكن مصدره وطنياً يتمثل في تحقيق نصر على بوتين عدو الأمس القاتل، وإنما هو نصر على الساخرين الذين كانوا حلفاء بوتين بالأمس وقد باتوا الآن يرون ويسمعون الأنباء القادمة من موسكو وكيف صار زعيم الكرملين يضع يده بيد خصمهم الوطني (العدو الوطني).

حين كان الأسد يتنازل عن شيء من سيادة البلد لأجل كسب معركته على السوريين، كان مؤيدوه يملؤون صفحاتهم تفاخراً وتمجيداً واعتزازاً: (يا أسدنا، يا كبير، العالم ينحني أمام فخامة الرئيس...). هم لا يرون أحداً جديراً بهم عداوته غير ابن وطنهم، ولا خصماً غيره. يسلّم السلاح الكيماوي، يستدعي روسيا، يوقّع على فواتيرها، يقصفنا الكيان صباح مساء، كلّه غير مهمّ ولا يستثير الكرامة. وحدها (الباصات الخضر، وصواريخ سكود التي تيمّم شطر إدلب) هي محطّ فخرنا وعزّنا. هم يستلذّون بإذلال ابن بلدهم دون العالمين (فهم العدو الوطني)، وهو يستلذّ برعشة الجلوس على الكرسي مهما كان ثمن الفضيحة.

واليوم لا همّ للمؤيدين الجدد سوى النصر على المؤيدين القدامى. نذهب إلى روسيا ونتعهّد لها بدفع فواتير الأمس (نصر مبين)، فواتير الصواريخ التي أُهدرت في إدلب وعلى رؤوس قاطنيها وفي أسواق خضارها، لتختلط بأجساد فقراءَ تنتظرهم أطفالهم ليأتوها في المساء بقوت وجبة العشاء، فيعاجلونهم ظهراً أشلاءَ محمّلة ببارود المنايا (نعم نصر مبين). الكيان يدمر سلاح الجيش الثقيل: لا يهمّ (الخفيف يفي بالغرض)، بل نستطيع أن نلحقه بمثالب الأسد، كما ألحق الزير سالم ثأر ابن أخته الذي قتله بنفسه وبسيفه وقال: "سأضيفه إلى ثأري مع جساس...". كله لا يهمّ، المهمّ أن يعزّنا الله ويذلّكم، أنتم ومَن غيركم يملأ مخيالنا يا شركاء الوطن (فأنتم العدو الوطني)؛ هذا وحده مصدر لذّتنا. وأما رعشة الكرسي فقد صارت لنا إلى يوم القيامة.

إنها الطائفية التي تستلذّ بزنا المحارم، فالطائفي ليس قابلاً للخيانة وحسب، بل هو لا يمكن إلا أن يكون خائناً. والزنا يكون أنواعاً: أغراباً ومحارم؛ لكن الطائفية نوع واحد لا غيره. وصاحب الزنا قد يُبتلى بالفضيحة وهو منها يستعرّ ويخجل، ولهذا فإن الله قدّر فيه حياءَه وخجله، فاحتاط ربه لستره إن ستر نفسه. وأما الطائفي فلا خجل ولا ابتلاء ولا حياء (وكلّ عرفٍ جماعي لا خجل فيه ولا استحياء). ولذلك، فالبلد حين تستعرّ فيه شهوة الطائفية لن يكون هناك مكان للخجل؛ الجميع يلهث وراء موطئٍ يطأه قبل أن يهتبله منه غيره. الخجل والحياء يكونان من عثرة تحرمه من لذّته، فيضطرّه حظّه العاثر إلى جلد عُميرةَ بخيال كاذب ولذّة زائفة كمنشور هذا الإعلامي الذي لا تحتاج إلى طول عناء وتفكيك لتعرف أنه نشره وهو مستلقٍ مستمنٍ في حوض سباحة حمّامه.

ولهذا فإنَّ الله أكرم في الزاني والزانية خجلهما وحياءهما، فاستحى أن يفضح فيهما ستر الحياء، لعله يتوب يوماً وهو به أعلم، وشرّع شهوداً أربعاً غير منقوصين. وأما الطائفية لأنها منزوعة الحياء والخجل طبيعةً وجبلةً، فقد زادها الله ريحاً ونتانة وفضيحة، فلو جلد الطائفي عُميرتَه في ظلمات حمّامه لفاحت ريحُ عميرةَ حتى عمّت سماء العباد وعمّرت خراب البلاد خراباً.

أيها الطائفي المنتشي بنصر صورة مع بوتين! قد كان يسميه عدوك الوطني ("أبو علي بوتين... شيخ الشباب وسيد الوفاء")، فابحث له عن لقب جديد حتى لا يطالبوك بحقوق الملكية الفكرية للأسبيقة الطائفية. وانتظر مفاجآت وفاءِ ("شيخ الشباب" القادمة) حين يأتيك بدؤها من الأسد نفسه، وكيف سيُعطى الإذن بالمقارنة والمفاضلة، ومن ثمّ يتلوها ما يتلوها من مسرحيات لا قبل لمخيلات المبدعين بها، بل ولا حتى أخيلة الأطفال.

تخيّل بلداً هذه حالها اليوم: طائفيّها على ما وصفت، وأما الوطني فيها فكان بالأمس مع حلف الأمس (سوريا الأسد)، واليوم هو مع حلف اليوم (سوريا ما بعد الأسد). لذّة واحدة وزمنان وموطئان ووطآن. يستعير أقواله وأفعاله ومنشوراته السابقة (أمجاد سوريا الأسد على الإرهابيين) ولا يجري عليها من تعديل غير تبديل الأسماء (الساقط بدلاً جديداً من الأسد القديم، والمحررون بدلاً جديداً من الإرهابيين القدامى). وأحياناً ينسى حتى التبديل، كما ينسى أحدنا أحياناً أن ينظر إلى تاريخ انتهاء الصلاحية حين يشتري على عجل معجون أسنان جديداً (فكلّه عند الوطني معجون...).

وستأتينا القادمات بما لم نزودِ ولم يخطر على بال بشر، فيذهل العالم ونحن – السوريين – لسنا بذاهلين. فالوطن الذي يبيت في مرابع الطائفية لا بد أن ينكشف صبحه على الفجائع، لأنه لم يكن وطناً وإنما بقعة جغرافية معتقلة مسوّرة بأسلاك الطائفية.

هذه هي الطائفية مذ وُجدت على الأرض، وهذا هو الطائفي مذ كان، ولو أن ثمة جائزة لابتكار جملة طائفية جديدة غير مكرورة لظلت محجوبة مذ أُنشئت. حاله حال الزنا، قد تتبدل ثقافته ومعاييره وقيمه، ولا تتبدل ممارساته وتطبيقاته. ومهما تغيرت الأحوال ومرت السنون وتبدلت الأعراف وتطورت التشريعات، فإن الفطرة البشرية على قدر تحولات قيم استساغاتها وأخلاقياتها، لكنها إلى يومنا هذا لم تستسغ زنا المحارم. وما الطائفية في وطن متعدد المشارب والطوائف إلا زناً، ومن قبحه بالمحرّم. وكل زانٍ قد يتوب طالما أنه يستحي، والطائفي لا يتوب، طالما وهي في عرفه حمية ومغرم. 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.