الفارق كبير بين السلامين زمنيًا وسياسيًا وأخلاقيًا. فسلام كانط، أو فيلسوف السلام العالمي كما جاء في كتابه "مشروع السلام الدائم"، تحدث فيه عن مشروع دستور تلتزم به الأمم جميعًا درءًا للحروب. وعنده، كل إنسان عقلاني له حق طبيعي في الحرية، وواجب الدخول في حالة اجتماعية محكومة من قبل عقد اجتماعي بهدف تطبيق الحرية وتنفيذها. ولقد اهتم بمسألة التنازع بين البشر وما تجره من حروب، والحروب تُمثل المأساة الكبرى والهاجس الخطير للإنسانية ومصدر كل الشرور، ولكل المخاوف ونزعات القلق الوجودي. حاول كفيلسوف أن يرسم للإنسانية حلم الطمأنينة والسلام عبر مشروع للسلام الأبدي. وأعلن أن أكبر شر يصيب الشعوب لا يعني الحرب الماضية أو الحاضرة، بل الاستعداد للحرب القادمة. وسلام كانط أساسه إنشاء حلف بين الشعوب، ومنه استُلهم اسم عصبة الأمم.
ومرتكزات السلام الكانطي أن الحروب لا تُحقق السلام وتخلو من العدالة، وأن تُؤسس العلاقات الدولية على قواعد أخلاقية والانتقال بها من حالة الطبيعة المتوحشة إلى حالة المدنية الأخلاقية، وعدم تضمين معاهدات السلام بنودًا سرية تُعطي الحق لاستئناف الحرب، ولا يمكن امتلاك دولة مستقلة عن طريق الميراث أو التبادل والقوة، وأنه لا حاجة للجيوش الدائمة مستقبلًا. ولا يجوز لدولة أن تتدخل في نظام حكم دولة أخرى. ولا يجوز لدولة في حرب مع دولة أخرى أن تقوم بأعمال عدوانية. هذا مختصر لرؤيته للسلام وكأنه يصف حالة الحرب والعنف والعدوان والقتل على غزة. سلام يقوم على الأخلاق والفضيلة والحقوق، وليس سلامًا كما نراه اليوم يقوم على العدوان والحرب الدائمة وعدم الاعتراف بالإنسان الفلسطيني وحقه الطبيعي في الحرية والعدالة، ولعل هذا هو سبب ديمومة الحرب. إنه سلام الفيلسوف الحالم بعالم آمن.
أما سلام ترامب، والذي عبر عنه في مبادرته لوقف الحرب على غزة أو وثيقة السلام الدائم في الشرق الأوسط، فهو سلام السياسي الساعي للهيمنة والسيطرة والنفوذ والقوة، سلام القوة والمصلحة الذاتية. وهذا عبر عنه في الكثير من مقولاته وتبنيه وانحيازه لإسرائيل كدولة قوة وليس كدولة سلام، دولة تتبنى الحرب خيارًا لها وترفض قيام الدولة الفلسطينية وتنكر كل الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، ولا تعترف باحتلالها وهذا ما يتبناه ترامب ويؤيده في رؤيته. فهو يتكلم عن طموحات للشعب الفلسطيني ولا يتكلم عن حقوق وعن شعب له حق تقرير مصيره في دولته، ويتحدث عن تشكيل المنطقة من خلال سلام القوة، وهمه الوحيد أن تكون إسرائيل الدولة الحاكمة والقوة الوحيدة في شرق أوسط جديد، وأن تعترف بها كل الدول العربية والإسلامية وتوسيع علاقات التطبيع والاعتراف بوجودها وتأثيرها وقوتها.
أما الدولة الفلسطينية فمجرد حلم، هو يتجاهل كل قرارات الشرعية الدولية التي أقرتها الأمم المتحدة والتي نصت على حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره ودولته، يتجاهل اعتراف 160 دولة بفلسطين كدولة تحت الاحتلال، لا يعترف أن هناك احتلالًا إسرائيليًا ويلقي بكل اللوم والمسؤولية على شعب تحت الاحتلال ويعتبر مقاومته إرهابًا. يؤمن بسلام القوة وقوله: "لدينا أسلحة لم يحلم بها أحد، وآمل ألا نضطر إلى استخدامها"، ونسي أن كثيرًا من هذه الأسلحة التي قدمناها لإسرائيل هي من قتلت ودمرت، وسوف تُحقق الأهداف السياسية للحرب التي فشلت إسرائيل في تحقيقها، لأن الولايات المتحدة تتبنى هذه الأهداف، أهداف القوة وفرض السلام وتطبيع العلاقات مع كل الدول العربية، سلام لا يعترف أن هناك أكثر من سبعين ألفًا قتلتهم الأسلحة التي تحدث عنها وحولت أكثر من مئة ألف إلى معوقين.
مبادرة ورؤية للسلام لا تقدم مسارًا واضحًا نحو قيام الدولة الفلسطينية، وتقوم على مكافأة إسرائيل على حربها ومكافأة لنتنياهو المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب حرب إبادة. بل ويطالب المحكمة - والتي فُرض عليها عقوبات - بسحب هذه التهم. وهذا لم يحصل في التاريخ. ويبقى السؤال: هل هذه المبادرة هدفها إرساء السلام الدائم كما تحدث عنه كانط؟ وإذا كان هدفها الحقيقي السلام فسيكون سلامًا دائمًا يتوالد مع الأجيال ليتحول لسلام عالمي، أما إذا كان هدفه سلام القوة والحرب فسيجلب صراعًا وحربًا دائمًا، ويُولد أجيالًا تتربى على الكراهية والحقد والرغبة في القتل كما نرى نموذجها اليوم في الحرب على غزة.
هذه هي الإشكالية الكبرى التي غابت عن كل المبادرات الأميركية التي احتكرت عملية السلام في المنطقة وصولًا لمبادرة ترامب اليوم للسلام الدائم في أكثر مناطق العالم معاناة للحروب على مدار تاريخها. وهي رؤية أنكرت وتنكرت لكل المرجعيات الدولية ولحق شعب صاحب حق تاريخي في دولته، ولرؤية تتبنى وجهة نظر واحدة للسلام وهي وجهة نظر إسرائيل التي تقوم على أمن وبقاء إسرائيل وشرعنة الاحتلال. ويتجاهل الشق الثاني للسلام: سلام شعب تحت الاحتلال. وهو الطرف الذي يعاني من غياب السلام العادل والأخلاقي الذي تحدث عنه كانط. السلام المطلوب هو الذي يخاطب الحقوق الناقصة لأطرافه وأن يحقق التوازن في معادلة الحقوق وصولًا لصيغ التعايش المشترك وبناء سلام العدل والأخلاق ونبذ قيم الكراهية والحقد والتعصب والرفض. السلام الذي تحدث عنه كانط هو سلام الإنسان في الحرية والعدالة. ويبقى أن السلام يحتاج حكومات للسلام وأفرادًا ينشأون على السلام. وهذه هي الإشكالية الكبيرة بين السلام الدائم لكانط وسلام ترامب الباحث عن القوة.