يقول الكاتب الفلسطيني عماد شقور: "إنَّ كل أرض يحرثها ويفلحها تراكتور ولا تحميه دبابة، تعطي غلّتها لمن يملك الدبابة". وشقور يقول ذلك على مستوى الدول، ولكن كلامه ينسحب أيضاً على المقاطعات الواقعة ضمن جغرافية الدول التي لا يحكمها قانون أرضي عادل أو سماوي منصف، إنما يحكمها منطق الغلبة ومافياتٍ لا سلطة للدولة عليها، أو فلنقل لا تريد الدولة أن تزعجها أو تشتبك معها كرمى السكان المهمشين في منطقةٍ ما، وهذا بالتحديد ما يجري في منطقة عفرين الواقعة في أقصى شمال سوريا، حيث سكانها لا يملكون أية دبابات أو دوشكات أو كلاشنكوفات ليحموا بها أشجارهم من البتر ومواسمهم من السلب والنهب والسطو على يد من يملكون كل أنواع السلاح، وفوقها مسنودون من السلطة المحلية وتحميهم دول الجوار.
ويبدو جلياً أنَّ التعامل الاستثنائي في مقاطعة عفرين ليس خرقاً عادياً، ولا يأتي في سياقِ تصرفٍ عابرٍ يقوم به مسلحون يتبعون الحكومة الجديدة في دمشق شكلياً، بينما أوامرهم الفعلية يتلقونها من خارج الحدود، وذلك باعتبار أن المناطق الكردية في سوريا سبق أن خضعت لإجراءاتٍ استثنائية من بين كل المحافظات السورية، كما جرى ذلك إبان الإحصاء الاستثنائي في محافظة الحسكة تحديداً بخلاف كل محافظات القطر السوري في عام 1962، والذي بموجبه تم جرد عشرات الآلاف من الكرد السوريين من الجنسية السورية وحرموا من أبسط حقوق المواطنة.
ولا شك في أنَّ الإجراءات الاستثنائية في عفرين ومداومة عسفها وجورها كانت السبب في إعلاء الأصوات من مختلف المشارب، إذ حتى الذين كان هسيس حناجرهم خافتاً أو خجولاً طوال السنوات الماضية انضموا حالياً إلى الصوت الصارخ لعامة الناس، بما أن الذي يجري لا يقبله لا دين ولا قانون ولا منطق. وللعلم، ففي السابق كانت المعارضة السورية تتجاهل كل أعمال السلب والنهب المنظَّم منذ عام 2018، أي منذ يوم غزو المنطقة إلى نهاية عام 2024، وتغض الطرف عن كل الانتهاكات التي كانت تجري في تلك البقعة كرمى عيون الجارة التي عملت كل جهدها من أجل غزو المنطقة بالجراد السوري المسلح بذريعة محاربة حزب العمال الكردستاني، وذلك باعتبار أن الفصائل السورية المسلحة التي كانت تسلب وتنهب وتنتهك تُدار من قِبل الأجهزة الأمنية التابعة للدولة الجارة.
ولكن بعد أن سقط نظام حزب البعث العربي الاشتراكي في دمشق وتم تعيين قادة الفصائل الفاسدة كمسؤولين في الحكومة السورية الجديدة، تفاءل الناس بالتغيير الحاصل عسى أن ينزاح عن صدورهم كابوس الفصائل الجائرة، إلا أن الأمر بقي على ما هو عليه، وبقيت الاقتصاديات التابعة لفصائل السلب والنهب تضع يدها على أرزاق الناس. وهو ما دفع بمدير مكتب رابطة المستقلين الكرد السوريين بعفرين "آزاد عثمان" ليقول متهكماً في منشورٍ له: "كل حدا يتمنى مدينته تصير مثل شي مدينة أوروبية أو عربية، نحن بعفرين نتمنى نصير متل إخواننا في مناطق اعزاز أو الباب أو الراعي أو مارع، ما عندهم لا اقتصادية ولا نازح مستعصي ولا مسؤول من برا مدينتهم ولا قرار قضائي غير قادرين ينفذوه". وأضاف عثمان في منشورٍ آخر: "يا الله مالنا غيرك يا الله (زيتون عفرين بلاء عليهم) أتمنى إنو الاقتصادية تصادر كل زيتون عفرين نهائياً وتعطي أهالي الزيتون نسبة بسيطة متل ما كل صاحب رزق بيعطي عماله وخدمه نسبة مشان ما يموتوا من الجوع، صار 8 سنوات والناس تشتغل متل الخدم وتستنى أولادها يبعتولهم مصروف من الخارج". حيث إن الأستاذ عثمان تكلم بلسانٍ فيه الكثير من السخرية، ولكنه التهكم الذي يحمل في طياته كل معاني الوجع ودلالاته.
وفي الإطار ذاته، نشر الدكتور نيازي حبش، أحد مؤسسي منظمة بهار الإنسانية، منشوراً على صفحته الشخصية تناول فيه ما تشهده منطقة عفرين من سرقاتٍ ونهبٍ لمحصول الزيتون، وانتقد قرارات اللجان الاقتصادية، داعياً إلى موقفٍ موحد ضد هذه الممارسات، مؤكداً أن ما يحدث اليوم في منطقة عفرين من استغلالٍ لمحاصيل الزيتون واقتطاعٍ جائرٍ يصل أحيانًا إلى نصف أرزاق الأهالي، هو عارٌ على جبين كل من يصمت، وعلى الحكومة واللجان الاقتصادية والفصائل المسلحة التي تمارس هذا الظلم أو تغض الطرف عنه.
وبخصوص موضوع الاقتصاديات الفصائلية وما تقوم به، علّق مدير مركز رامان للبحوث والاستشارات الباحث بدر ملا رشيد قائلاً: "لمن لا يعرف، الاقتصادية في منطقة عفرين هي مكاتب مثل مكاتب ممثلي جيوش الدول الاستعمارية في عهد ما قبل الدولة الحديثة، تصادر الأموال وتفرض الضرائب شفوياً وعلى كيف العنصر وأمير الفصيل العسكري".
وحيال قانون الاستحواذ الاستثنائي والاِستباحة في المنطقة، هنالك العديد من التساؤلات التي تُطرح من قِبل سكانها الأصليين، وليس من قِبل الذين جاؤوا إليها بعقلية الغزو والغنيمة في عام 2018 بناءً على الاتفاق (الروسي، التركي، الأسدي)، قائلين: هل ثمة من يدفع للدولة الجزء الكبير أو نصف مواسم أراضيه من السوريين المهجرين والمنتشرين في دول العالم أم أن هذا الأمر خاص بمنطقة عفرين وهي حالة استثنائية؟ وهل الذين هُجروا من أماكن سكناهم في عهد النظام المخلوع وعادوا بعدها من الشمال السوري أو من لبنان أو تركيا إلى قراهم وبلداتهم ومناطقهم ومدنهم جاءهم من يطلب منهم الأوراق الثبوتية الخاصة ببيوتهم وسياراتهم وعقاراتهم وأملاكهم، أم فقط على الإنسان العفريني ينطبق هذا القانون الاستثنائي؟ وهل النازحون إلى باقي المناطق في عموم سوريا يمتنعون عن تسليم البيوت التي آوتهم إلا بعد أن يدفع صاحب البيت الأموال للمستعصي في البيت، أم أن هذه الآلية فقط موجودة في منطقة عفرين؟ باعتبار أن هذه الأدوات المسلحة تعوّل على تصوّرها الراسخ وهي أن من أتى بها ومن يدعمها يكن الحقد لعفرين وناسها؟ وبالتالي لن تجد عفرين من يخفف الحمل عنها أو يعمل على ركل من ينهش بجسدها، في وقتٍ ما تزال الإدارة الجديدة في دمشق مشغولة بتثبيت أقدامها في الحكم من جهة عبر إرضاء الدول الفاعلة، ومن جهة أخرى منهمكة بإنهاء دور "قسد" عبر تسليم قياداتها بعض مواقع المسؤولية إلى حين، حيث آخر هم لدى الإدارة الجديدة حياة البشر في تلك المنطقة النائية، مع العلم أنها تدرك جيداً زناحة ووضاعة الفئات العسكرية المسلطة على رقاب الناس فيها، ولكنها ربما تغض الطرف عن انتهاكات تلك الجهات المسلحة في سياق التناغم مع هوى الجارة التي لا تريد أيَّ خيرٍ لعفرين وأهلها.
وفي الختام، يطيب لي إيراد أسطرٍ قليلة من قصيدةٍ يمتزج فيها الألم بالبشرى بالتخلص من الجور كتبها يوماً الدكتور محمد حبش عن منطقة عفرين، وجاء في بعض أبياتها:
"عفرين؛ يا مدينة الأسى ويا مدينة الأنين،
عفرين، أيتها العذراء في وادي الضباع،
في عالمٍ من الشتات والضياع،
سترْتقين فوق حقدهم سترْتقين،
وفوق أهلك الحزانى تشرقين،
تعالجين حزنهم وتغمرين،
وتملئين الكون من نفح اليقين،
أقرؤها من خارج الزمان والطلول،
أسطورة تبقى وظلم سيزول".
إذ إن الدكتور حبش عبّر في قصيدته عما عانته عفرين على يد فصائل السلب والنهب طوال السنوات السابقة، وكعادته بقي الدكتور حبش مستبشراً بالغد المشرق بالرغم من حلكة الراهن، لذا تفاءل وقت كتابة القصيدة بزوال الظلم وطغيان المسلحين المنفلتين في ربوعها منذ عام 2018، إلا أننا وصلنا نهاية الشهر العاشر من عام 2025 والجور مستمر، واللصوص محميون، والأمان مفقود، والحرية لم يذق طعمها العفرينيون بالرغم من سقوط نظام حزب البعث في دمشق منذ أواخر العام الفائت.