يُعدّ توزيع التنمية بين المدن السعودية أحد أبرز تحديات التحول الاقتصادي. فعندما تتسارع وتيرة النمو، تميل الأنشطة الاستثمارية والإدارية إلى التمركز في العواصم والمدن الكبرى، مما يمنحها زخماً اقتصادياً وإدارياً، لكنه في المقابل يُحدث خللاً في توازن التنمية بين المناطق، ويكشف عن قصورٍ في آليات توزيع الموارد والفرص بين المركز والأطراف.
في هذا السياق، تُجسّد الرياض نموذجاً لتلاقي الطموح التنموي مع تحديات التمركز. فقد تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى مركزٍ يستقطب الاستثمارات والمقارّ الإقليمية والمشاريع السيادية. غير أن هذا النمو المتسارع، إن لم يُقابل بتخطيطٍ متوازن، قد يتحوّل إلى عبءٍ عمراني وسكاني تظهر آثاره في ازدحام الطرق، وارتفاع الإيجارات، وتراجع جودة الحياة. كما أن التوسع الأفقي للمدينة يستهلك مساحات واسعة من الأراضي والموارد، ويزيد التلوث والضغط على البنية التحتية.
وبالرغم من الخطوات التصحيحية مثل رفع ضريبة الأراضي البيضاء، وتثبيت الإيجارات في الرياض لخمس سنوات، وتوفير الأراضي السكنية، إلا أنَّ هذه الإجراءات تظل معالجات ظرفية لا تمسّ جوهر المشكلة. فالعاصمة باتت مركز الجذب الرئيس للاستثمارات والوظائف، وقد أصبحت مدينةً تنمو بوتيرةٍ تفوق قدرتها على التنظيم، ما يدفع سكان المدن الأخرى إلى النزوح نحوها. ومع اقتراب موعد السماح بتملّك الأجانب للعقارات مع بداية عام 2026، قد يتضاعف هذا الضغط ما لم تُوزَّع التنمية وفرص العمل بصورة أكثر توازناً واستدامة على مدن المملكة.
تُظهر البيانات السكانية أنَّ النمو يتركّز في عدد محدود من الحواضر الكبرى، أبرزها الرياض وجدة ومكة المكرمة والمدينة المنورة والدمام، إذ تستحوذ هذه المدن على أكثر من ثلثي سكان المملكة. وتشكل الرياض وحدها نحو 45 بالمئة من إجمالي سكانها، ما يجعلها مركز الثقل الديموغرافي والاقتصادي في البلاد. ويعكس هذا التكدّس اختلالاً في توزيع الاستثمارات والخدمات، فتتراجع معه قدرة المدن الأخرى على جذب الأنشطة وتحقيق نمو متوازن.
وعليه، فإنَّ المدن التي تجاوز عدد سكانها مليون نسمة يمكنها مواصلة تطوير بنيتها التحتية وتعزيز كفاءتها التشغيلية، فيما تُوجَّه مشاريع التنمية النوعية نحو المدن المتوسطة والصغيرة لتمكينها من بناء قواعدها الاقتصادية الخاصة. كما يُعدّ الربط بشبكة متكاملة من الطرق والقطارات خطوة محورية لإعادة توزيع النشاط الاقتصادي والسكاني على نحوٍ أكثر توازناً واستدامة.
وفي التجربة السويسرية، التي تُعدّ برأيي من أنجح النماذج في التخطيط المتوازن، يتضح أنَّ هذا البلد – بالرغم من أنَّ عدد سكانه تسعة ملايين نسمة موزعين على مساحة صغيرة لا تتجاوز 41 ألف كيلومتر مربع – لم تُركَّز التنمية فيه في مدينتين أو ثلاث، إذ لا يتجاوز عدد سكان أكبر مدنه، زيورخ، نصف مليون نسمة. تنتشر التنمية عبر شبكةٍ من المدن المتوسطة والبلدات الصغيرة المترابطة بشبكة نقلٍ متطورة من طرقٍ وسككٍ حديدية، فتعمل كمنظومةٍ اقتصاديةٍ وسياحيةٍ متكاملة. بل إنَّ القرى الجبلية تستقطب ملايين السياح وتدرّ عائداتٍ مرتفعة، مما يجعل الريف السويسري شريكًا فعليًا في التنمية.
ويعود نجاح هذا النموذج إلى نقل الصلاحيات من الحكومة الفدرالية إلى الكانتونات والبلديات، وتشجيع المنافسة الإيجابية بين الأقاليم في جذب الاستثمار وتطوير الخدمات، وتحفيز البلديات الصغيرة على تحسين أدائها لتخفيف الضغط عن المدن الكبرى. يُخطئ من يعزو نجاح النموذج السويسري إلى جمال الطبيعة وحده؛ فذلك الجمال لم يكن ليستدام لولا إدارةٌ واعية أحسنت توظيفه عبر تخطيطٍ طويل المدى يضمن توازن الخدمات وفرص العمل بين الجبال والسهول.
وفي المملكة، لا يقلُّ التنوع الطبيعي ثراءً، من الجبال والسواحل إلى الصحارى والواحات والمواقع الأثرية المنتشرة في كل منطقة. هذه الثروة الجغرافية، متى وُجّهت إليها الاستثمارات والبنى التحتية الحديثة، قادرةٌ على توليد دورةٍ اقتصاديةٍ وسياحيةٍ متكاملة على مدار العام، وتوسيع نطاق التنمية إلى المدن المتوسطة والصغيرة.
وعليه، فإن الزحام وارتفاع الأسعار وتكدّس السكان في مدنٍ بعينها ليست قدرًا لا يُرد، بل نتيجةُ خياراتٍ تنمويةٍ قابلةٍ للمراجعة. فحين تتوزع الاستثمارات والبنى التحتية على نحوٍ متوازن، يتحول الضغط إلى شبكةٍ من المدن والمحافظات والقرى القادرة على المشاركة في النمو.
إنَّ مستقبل المملكة لن يُبنى على تضخّم مدينةٍ أو ثلاث، بل على توازنٍ يجعل كل منطقةٍ قادرةً على الإسهام في التنمية وفق مواردها وموقعها، مع تعزيز التنافس الإيجابي بين المناطق في جذب الفعاليات والاستثمارات المحلية والعالمية، والحفاظ على فتياتها وشبابها الأكفاء ليستثمروا مهاراتهم وقدراتهم في خدمة مناطقهم، بدل أن تُدفع طاقاتهم إلى الهجرة نحو المدن المتضخمة بحثًا عن الفرص.