الضجيج السياسي والحقيقة الاستراتيجية
في خطاباته المتكررة، يروّج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لرواية تفاخرية تزعم أن دول الخليج "دفعت تريليونات الدولارات" للولايات المتحدة بفضل إصراره الشخصي. هذه التصريحات، التي تُقدَّم للجمهور الأمريكي كإنجاز بطولي، تتسم بقدرٍ من المبالغة الخطابية المقصودة لإبراز صورة "الرئيس التاجر القوي".
غير أن الحقيقة الاستراتيجية أكثر تعقيدًا من هذا السرد الدعائي؛ فالعلاقة الأمريكية الخليجية لا تُختزل في أرقام وصفقات، بل تمثل شراكة استراتيجية متجذّرة تخدم مصالح متبادلة في سياق جيوسياسي بالغ الحساسية.
ويمكن قراءة هذه العلاقة من زاوية فلسفية تستلهم المثل الشعبي: "الضرورات تبيح المحظورات"، وهو ما يقابله في المنطق العربي القديم قولهم: "اللي تعرف ديّته اقتله"؛ أي أن التعاون مع قوى متناقضة ظاهريًا يصبح مبرّرًا حين تفرضه المصلحة العليا.
أولاً: تفكيك أرقام "التريليونات" بين الخطابة والواقع
1. سياق التصريحات التفاخرية
تصريحات ترامب حول “التريليونات” يأتي ضمن أسلوبه المعتمد على تضخيم الإنجازات وربطها بشخصه. وغالبًا ما يخلط بين صفقات الأسلحة (مثل صفقة السعودية عام 2017 بقيمة معلنة بلغت 110 مليار دولار)، والاستثمارات الاقتصادية، والتعهدات المستقبلية غير الملزمة.
هذا الخلط يخدم أهدافًا سياسية داخلية، إذ يصوّر نفسه كمن "أجبر" دول الخليج على الدفع، بينما الواقع يشير إلى علاقة تبادلية المنفعة تخضع لمفاوضات طويلة الأمد (المصدر: رويترز، 2018 – خبر حول المبالغة في تقدير الصفقة السعودية).
2. حقيقة الأرقام والاستثمارات
هذه "التريليونات" ليست مدفوعات نقدية مباشرة، بل تشمل صفقات أسلحة تمتد على مراحل طويلة، واستثمارات في قطاعات الطاقة والبنية التحتية، وشراكات في مشاريع كبرى مثل نيوم والقدية.
كثير من هذه العقود ما زال قيد التنفيذ أو التفاوض، وبعضها مشروط بموافقات الكونغرس الأمريكي، ما يؤكد أن المسألة تتعلق بالاستثمار المشترك لا بالجباية السياسية.
3. طبيعة التبادل الاستراتيجي
العلاقات الخليجية الأمريكية قائمة على تبادل استراتيجي لا ابتزازي. والصفقات التجارية بينهما ليست "جباية" كما يصورها ترامب، بل تبادل تجاري واستراتيجي مدروس. دول الخليج تحصل على أسلحة متطورة، ونقل تقنية، وتدريب عسكري، وضمانات أمنية في مواجهة التهديدات الإقليمية. وفي المقابل، تستفيد الولايات المتحدة من دعم صناعتها الدفاعية، وخلق فرص عمل، وتعزيز نفوذها في منطقة الخليج الحيوية واستقرار أسواق الطاقة العالمية.
ثانيًا: الجدول الزمني والطبيعة الاستراتيجية
لا يوجد "جدول دفع" محدد لما يسميه ترمب بـ"التريليونات"، لأن العقود والاستثمارات تمتد من 10 إلى 30 عامًا.
صفقة الأسلحة السعودية المعلنة عام 2017 مثلًا لم تُنفذ بالكامل حتى الآن، نظرًا لحاجتها إلى موافقات تشريعية أمريكية وتوزيعها على مراحل زمنية متعددة.
وعليه، لا يمكن اعتبار هذه المبالغ رشوة سياسية كما يلمّح البعض، بل هي جزء من تخطيط استراتيجي طويل الأمد بدأ منذ أول اتفاقيات النفط بين الجانبين عام 1933.
ثالثًا: الضرورات تبيح المحظورات – براغماتية التعاون الاستراتيجي
يُجسّد هذا التعاون تطبيقًا عمليًا لفكر السياسة الواقعية (Realpolitik) الذي تحدث عنه مفكرون مثل نيكولو مكيافيلي وهانس مورغانثو، وطبّقه سياسيون كبار مثل هنري كيسنجر.
يرى هذا المنهج أن تحقيق الغايات الكبرى قد يتطلب قرارات صعبة، بما في ذلك التعاون مع قوى مثيرة للجدل إذا كانت النتيجة النهائية تخدم المصلحة العليا للدولة.
وفي الحالة الخليجية، تمثل الغاية حماية الأمن القومي وتنويع الاقتصاد ومواجهة التهديدات الإقليمية، بينما الوسيلة تتمثل في التحالف مع الولايات المتحدة رغم الجدل حول سياسات بعض إداراتها (أنظر: Morgenthau, Politics Among Nations (1948) وKissinger, Diplomacy (1994)).
رابعًا: المقارنة البراغماتية مع الشركاء الدوليين
النهج البراغماتي ليس مقصورًا على العلاقة مع واشنطن؛ فدول الخليج تتبعه مع جميع القوى الكبرى:
الصين: ضمن مبادرة "الحزام والطريق" ومشاريع الطاقة والبنية التحتية.
روسيا: عبر تحالف "أوبك+" لضبط توازن سوق النفط.
الاتحاد الأوروبي: من خلال التعاون في الطاقة المتجددة والتقنيات الخضراء.
هذا التعدد في الشراكات يعكس رؤية سياسية مستقلة ومتوازنة في إدارة العلاقات الدولية.
خامسًا: الأخلاق والسياسة في ميزان البراغماتية
من منظور مثالي، تُفترض نقاء الوسيلة مثل الغاية، لكن السياسة الواقعية ترى أن الوسيلة تُبرَّر بالضرورة الوطنية.
تتجلى هذه الضرورة في:
الأمن: مواجهة التهديدات الإقليمية والتوازن مع القوى الإقليمية المنافسة.
الاقتصاد: تنويع مصادر الدخل وجذب الاستثمارات الأجنبية مع قوى اقتصادية عالمية متعددة.
السياسة: الحفاظ على شبكة تحالفات مرنة في عالم متعدد الأقطاب.
سادسًا: قراءة متوازنة
الإيجابيات
شراكة متجذّرة تخدم مصالح مشتركة منذ تسعين عامًا.
توافق مع الرؤى الوطنية الطموحة مثل رؤية السعودية 2030.
تعزيز الأمن الإقليمي من خلال التعاون العسكري والاستخباراتي.
الانتقادات
تضخيم ترامب للأرقام لأغراض انتخابية داخلية.
توظيف العلاقة الاستراتيجية في سياقات دعائية.
تجاهل البعد التاريخي الذي جعل هذه الشراكة متينة ومستقرة.
خاتمة: شراكة استراتيجية في عالم براغماتي
العلاقة الأمريكية الخليجية ليست نتاج "ابتزاز ترمبي"، بل ثمرة تفاعل تاريخي طويل بين المصالح والأمن والاستقرار.وتصريحات ترمب التفاخرية، رغم فعاليتها في الدعاية السياسية، تتجاهل تعقيدات هذه العلاقة وتاريخها العريق.
وقد كشفت فاينانشال تايمز أن الرياض تسعى لوضع اللمسات الأخيرة على اتفاقية أمنية متينة خلال زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان المقبلة إلى واشنطن، تتضمن تعزيز التعاون العسكري والاستخباراتي، وربما تشبه الاتفاقية الأمريكية – القطرية الأخيرة التي تضمنت التزامًا بالدفاع المشترك (المصدر: Financial Times, 2024 – Saudi seeks firm US guarantees. أنظر أيضًاً: BBC Arabic coverage).
إنَّ قراءة هذه الجهود من منظور براغماتي تُبرز منطق "الضرورات" و"الدية"؛ حيث تدفع الدول الثمن المالي والسياسي لتأمين أهدافها الاستراتيجية العليا. ودول العالم بينها مصالح متبادلة تتكامل مع بعضها البعض وتحقق في النهاية المصالح المشتركة لتلك الدول.
وفي النهاية، تبقى هذه العلاقة ركيزة للاستقرار الإقليمي في عالم تسوده البراغماتية الواقعية، حيث تتعايش المثالية الأخلاقية مع ضرورات السياسة في توازنٍ دقيق.