: آخر تحديث

اعتراف روسيا بالحكم الذاتي يعزز المشروعية ويربك الخصوم

4
3
3

لم يكن تصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مجرد جملة عابرة في مؤتمر صحفي، بل كان حدثاً دبلوماسياً هزّ أركان الخطاب الجزائري المتكلس والمتجمد منذ خمسة عقود حول الصحراء المغربية، وفتح الباب أمام قراءة جديدة للموقف الروسي التقليدي الذي ظلّ يدعم ما يسمى بـ"تصفية الاستعمار".

حين قال لافروف إنَّ "مقترح الحكم الذاتي المغربي يمكن أن يكون جزءاً من الحل"، دخل النزاع منعطفاً حاسماً يُكرّس انتقال موسكو من ضبابية الحياد إلى براغماتية المصالح، ومن الانغلاق الأيديولوجي الجامد إلى الانفتاح الواقعي على مقاربة المغرب.

منذ إعلان المبادرة المغربية للحكم الذاتي سنة 2007، استطاع المغرب تحويلها بفضل حنكة دبلوماسيته الرصينة إلى قاعدة ثابتة في النقاش الأممي، محققاً دعماً متزايداً من القوى الكبرى: الولايات المتحدة، فرنسا، إسبانيا، الدانمارك وعدد متنامٍ من الدول الإفريقية والعربية، وخصوصاً دول مجلس التعاون الخليجي. ومع تصريح لافروف الأخير، تبدو روسيا – التي تمثل وزناً جيوسياسياً وعسكرياً مؤثراً – أقرب من أي وقت مضى إلى الاعتراف الواقعي بوجاهة المقاربة المغربية.

فحين يقول لافروف إنَّ "الحكم الذاتي قد يكون جزءاً من الحلّ"، فإن ذلك يعني عملياً أن موسكو باتت تدرك استحالة تطبيق الأطروحة الانفصالية التي تتبناها الجزائر عبر صنيعتها جبهة البوليساريو، وأن الزمن الدولي لم يعد في صالح الشعارات البائدة عن “تقرير المصير” بمعناه الانفصالي.

في المقابل، تعامل الإعلام الجزائري مع تصريحات لافروف بارتباك واضح، محاولاً التقليل من أهميتها أو تأويلها بما يحفظ ماء وجه نظامه العسكري. فبينما رحبت الصحافة المغربية بالموقف الروسي الجديد واعتبرته “اختراقاً تاريخياً”، لجأت المنابر الجزائرية إلى خطاب دفاعي ينكر الواقع.

الحقيقة أنَّ هذا الارتباك يعكس مأزق الجزائر الدبلوماسي، إذ لم تعد تجد في الساحة الدولية من يساند أطروحتها الانفصالية سوى حلفاء محدودين ومستفيدين من ريع الغاز، بينما تتوسع خارطة الاعتراف بالمقترح المغربي يوماً بعد آخر. وقد صارت الجزائر سجينة خطابٍ ماضوي يذكّر بزمن الحرب الباردة، غير قادرة على مجاراة التحولات التي فرضها المغرب بنجاحه في ترسيخ التنمية والاستقرار في أقاليمه الجنوبية.

إن روسيا اليوم ليست هي روسيا الأمس. فالمعادلة الجيوسياسية، منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، دفعت موسكو إلى إعادة رسم خريطتها الدبلوماسية في إفريقيا والعالم العربي. وفي هذا السياق، يشكل المغرب شريكاً اقتصادياً واعداً، إذ يحتل موقعاً محورياً في شمال إفريقيا، ويُعد من أبرز مستوردي الديزل الروسي، إضافة إلى انفتاحه على الصناعات الروسية، بما في ذلك التعاون العسكري والطاقي.

لهذا السبب، يبدو أن الكرملين يفضل اليوم خطاباً متوازناً، لكنه عملياً يميل إلى الأطراف القادرة على توفير الاستقرار والمصالح الاقتصادية، وهو ما يجده في الرباط لا في الجزائر الغارقة في أزماتها الداخلية والسياسية. فالمغرب شريك براغماتي يملك رؤية واضحة، بينما لا تزال الجزائر رهينة لغة "الثورة" و"المظلومية".

منذ صدور قرارات مجلس الأمن الأخيرة، أصبح الحل السياسي الواقعي والمتوافق عليه هو المرجعية الأساسية لأي تسوية. والمبادرة المغربية للحكم الذاتي تنسجم تماماً مع هذه المقاربة، وهو ما يجعلها الإطار الوحيد الذي يحظى بدعم متزايد داخل الأمم المتحدة.

أمَّا الجزائر، التي كانت سابقاً تحضر موائد الحوار الأممية، فقد انسحبت في السنوات الأخيرة، محاولة تصوير نفسها كـ"طرف مراقب" رغم كونها الطرف الرئيسي في النزاع. إن هذه المقاطعة عززت قناعة المجتمع الدولي بأن الجزائر هي العقبة الحقيقية أمام التسوية، وليست "الوسيط النزيه" كما تدّعيه.

المغرب من جهته يخوض معركته الدبلوماسية بثقة نابعة من قوة الجبهة الداخلية. فإجماع الشعب المغربي – بمختلف مكوناته السياسية والمدنية – حول قضية الصحراء هو ما يمنح الدولة قوتها ومصداقيتها. وكما قال أحد الدبلوماسيين المغاربة: "سنربح معركة الصحراء بالتنمية، والديمقراطية، وعدالة قضيتنا".

فعلى الأرض، تتقدم مشاريع البنية التحتية، والطاقات المتجددة، والاستثمارات الدولية في العيون والداخلة والسمارة، بينما تزداد القنصليات الأجنبية في الجنوب، في دلالة واضحة على الاعتراف العملي بالسيادة المغربية.

وفي النهاية، يبقى الحكم الذاتي هو الحل الواقعي، العادل، والمستدام، الذي يجمع بين السيادة الوطنية المغربية وحقوق الساكنة الصحراوية في إطار الوحدة الترابية للمملكة، وهو ما بدأ العالم – من واشنطن إلى موسكو – يدركه جيداً.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.