هل يمكن لطفلٍ أن يحقّق حلمه وهو جالسٌ على أرضٍ باردة، يكتب على ركبتيه، ويحدّق في سبّورةٍ مائلةٍ خلف جدارٍ متصدّع؟
هل يمكن للتلميذ أن يحفظ دروسه في فصلٍ بلا مقعد ولا نافذة، بينما الريح تعبث بدفتره الوحيد؟
أيّ طموحٍ يمكن أن يولد من رحم العوز، وأيّ علمٍ يمكن أن يُبنى على أرضٍ من ترابٍ وغبار؟
هكذا تبدو المدارس في سوريا اليوم... صفوفٌ خاوية إلا من الألم، ووجوهٌ صغيرة تحاول أن تتعلّم بالرغم من كل شيء.
في الوقت الذي كان السوريون ينتظرون من وزارة التربية أن تبدأ رحلة إعادة بناء ما دمّرته الحرب، جاءت الأولويات في اتجاهٍ آخر. فقد انشغلت الوزارة ـ كما لو كانت في عالمٍ موازٍ ـ بقراراتٍ إدارية شكلية: فصل الذكور عن الإناث، وتغيير أسماء المدارس، وتنقيح المناهج من كل ما يمتّ بصلةٍ إلى الماضي، بينما ظلّت الفصول الحقيقية تئنّ من البرد والجوع والإهمال!
مدارس بلا مقاعد!
منذ مطلع العام الدراسي، بدا أن الهمّ الأكبر هو إزالة آثار النظام السابق: أسماء المدارس، رموز الأدب والتاريخ، بل وحتى الشخصيات التي لا علاقة لها بالسياسة. وكأن الذاكرة الثقافية باتت عبئاً يجب التخلّص منه، لا إرثاً يجب الحفاظ عليه. كثيرون رأوا في ذلك نوعاً من طمسٍ للهوية، ومحواً للرموز التي صنعت وجدان البلاد عبر أجيالٍ طويلة.
وفي خضمّ هذا الانشغال، سارت الوزارة في اتجاهاتٍ أخرى لا تقلّ غرابة: تعديل جداول الحصص، تخفيض عدد دروس اللغة الفرنسية، زيادة حصص الموسيقا والرياضة، وإعادة توزيع المعلّمين في المحافظات. قراراتٌ أثارت الجدل في إدلب وحماة، حيث عبّر الأهالي عن رفضهم تقليص حصص التربية الدينية، معتبرين أن الوزارة تتجاهل خصوصية المجتمع.
لكن وسط كل تلك الملفات الجانبية، تراجعت القضية الأهم: ترميم المدارس وتأمين الحد الأدنى من مستلزمات التعليم.
صورٌ كثيرة تداولها ناشطون كشفت عن واقعٍ لا يمكن التبرير له. مدارسٌ تفتقر للمقاعد تماماً، أطفالٌ يجلسون على الأرض، يكتبون على دفاتر موضوعة على أرجلهم الصغيرة، وآخرون يتبادلون المقاعد القليلة كأنها غنائم. لا نوافذ تقي من البرد، ولا أبواب تحمي من الغبار، ولا وسائل تدفئة تُشعرهم بأنهم في مدرسةٍ لا في خيمةٍ مهجورة.
العام الدراسي الذي انطلق في 21 أيلول (سبتمبر) الماضي أعاد أكثر من أربعة ملايين طالبٍ وطالبة إلى مقاعد ـ أو بالأحرى إلى أرضٍ خاليةٍ من المقاعد ـ في نحو 12 ألف مدرسة موزّعة على المحافظات.
وبالرغم من ما روّجته وكالة "سانا" الرسمية من صورٍ زاهيةٍ لمدارس “جاهزةٍ بالكامل”، إلا أن الصور الميدانية قالت الحقيقة بوضوحٍ مؤلم: مدارس بلا أبواب، فصول بلا نوافذ، وطلابٌ يتعلّمون وسط الركام!
في ريف إدلب، تفتقر مدارس "الهبيط"، "أبو مكي"، و"كفر سجنة" إلى المقاعد. في "حيش"، و"شهداء مرديخ"، الأطفال على الأرض يحاولون استيعاب الدروس، بينما الغبار يملأ عيونهم. في ريف دمشق، مدارس "دوما" و"النشابية" لا تختلف حالاً، وكذلك في ريف حلب، في قرى "بسرطون" و"العيس"، حيث تتشابه المآسي وإن اختلفت الأسماء. أما في دير الزور والقصير بحمص، فقد باتت الصفوف المتهالكة جزءاً من المشهد اليومي، لا يثير استغراب أحد.
ورغم أنَّ الوزارة وعدت ببعض الحلول الجزئية ـ كتأمين مقاعدٍ محدودة لمدرسة “بالا” في ريف دمشق ـ فإن الأزمة أكبر من وعودٍ تُقال على الورق. إنها أزمة بنيةٍ تعليميةٍ منهارة، تنذر بجيلٍ كاملٍ مهدّدٍ بالجهل، بالرغم من أن الأطفال يواصلون الذهاب إلى مدارسهم بخطواتٍ يملؤها الإصرار، كأنهم يقولون: "حتى لو كانت الأرض مقعدنا، فلن نتخلّى عن الحلم".
هناك أكثر من سبعة آلاف مدرسة في سوريا بحاجةٍ إلى ترميمٍ عاجل، و60 بالمئة من المدارس القائمة تحتاج إلى إعادة تأهيلٍ شامل. ورغم أن الوزارة أعلنت ترميم 531 مدرسة فقط، فإن الأرقام تكشف مأساةً أعمق من مجرد نقصٍ في المقاعد. فما تمّ إنجازه لا يشكّل سوى نقطةٍ في بحرٍ من الخراب.
إنَّ إعادة الإعمار مسؤولية وطنية لا تقع على الوزارة وحدها، بل تتطلب تعاون الوزارات الأخرى والمنظمات والمجتمع المدني. لكن السؤال يبقى مطروحاً بمرارةٍ في وجدان الناس: أين ذهبت الأموال التي جُمعت باسم “إعادة الإعمار”؟ لماذا لم تتحوّل إلى مقاعدٍ يجلس عليها أبناؤنا بدل أن تظلّ حبيسة الوعود؟
ما بين الخطاب الرسمي والصورة الميدانية، مساحةٌ من الصمت والعجز لا يملؤها سوى وجع الناس. الوزارة تتحدّث عن مدارسٍ جاهزة، والواقع يصرخ بالعكس. المدرّسون يواجهون عجزهم كل صباحٍ بابتسامةٍ متعبة، والطلاب يواجهون البرد والأرض الصلبة بالحلم وحده.
في عمق هذا المشهد، تختبئ المأساة السورية على شكل طفلٍ يحمل حقيبته المهترئة ويمضي إلى مدرسةٍ لا جدران لها. هناك، يجلس القرفصاء فوق التراب، يكتب على دفترٍ تلطّخته الغبرة، ويرفع يده بخجلٍ ليجيب عن سؤال المعلم. لا أحد يسمعه، لأن الريح تغطي صوته. ومع ذلك، يصرّ أن يتعلّم.
أحلام بلا دفاتر
إنّ التعليم ليس جدراناً ولا سبّوراتٍ ولا طاولاتٍ فحسب، بل هو كرامة الإنسان ومفتاح مستقبله. حين يُجبر الطالب أن يتعلّم على الأرض، فنحن لا نخسر درساً في الحساب أو الجغرافيا، بل نخسر إيماناً بالوطن، نخسر الثقة بأن المستقبل ممكن.
ومع كل هذا، ما تزال الوزارة تنفي ما تراه العيون، وتنكر ما توثّقه الصور، كأنّ الواقع مجرّد إشاعة، وكأنّ الأطفال الذين يفترشون الأرض في إدلب وريف دمشق وريف حلب مجرّد ظلالٍ عابرة.
فهل بهذه الصور يمكن أن يحقّق الطالب طموحه؟ هل يمكن أن يحلم التلميذ بمستقبلٍ أفضل وهو يتعلّم وسط الركام؟ وهل يمكن أن نصدّق بعد اليوم أن كل شيء على ما يُرام؟
لقد تجاوز الواقع حدود الصمت. لم يعد من الممكن السكوت عن مشهدٍ كهذا، لأنّ التعليم ليس رفاهية، بل هو آخر ما تبقّى من ملامح الحياة. وإن ضاعت المدرسة، ضاع الوطن كلّه.
ويبقى السؤال معلقاً في فضاء الوجع السوري: أيّ معنى لإصلاح المناهج وتغيير الأسماء، إذا كان التلميذ يجلس على أرضٍ باردةٍ ليكتب حلمه بقلمٍ مكسور؟