: آخر تحديث

على مائدة الكارثة

7
5
5

أيها السيدات والسادة، مرحبًا بكم على مائدة الكارثة.

الرجاء الجلوس حسب مقاعد الصمت، فالعشاء سأقدمه لكم على شرف اغتيال الشعور الوطني.

كان أبي يبتسم ساخرًا حين قصّ عليّ حكاية "الملك المذبوح". سألته يومها:

وماذا فعل الشعب؟

قال بابتسامة الحكيم الذي رأى كل شيء: يا ولدي! مات الملك، عاش الملك.

لم أفهمه حينها، لكن بعد عقود أدركت أن الشعوب لا تموت، فقط تغيّر المذبح.

كنت مراهقًا حين شاهدت العراقيين يصفّقون لإعدام رجال قاعة الخلد.

همستُ لنفسي بسذاجة: مات المعارضون، عاش الدكتاتور.

وكم كان الشعب كريماً يومها، منح قاتله عذرًا مختومًا بختم "الخوف المشروع".

ثم سقط الدكتاتور، فجاءت "العدالة المرتقبة" تركب دبابة وتوزّع الابتسامات فوق منصة الإعدام.

لم تكن ديمقراطية، بل حفلة تنكّرية للثأر بزيّ العدالة، أول ملامحها اتضحت بتنحية رزكار أمين الذي كان سيحكم صدام بالإعدام وفقًا للأدلة والبراهين.. لكنهم لم يفعلوا، وصمت الشعب ثانية ولم يفهموا أن موت الدكتاتور بتلك الطريقة هو ولادة للعشرات من أمثاله.

ثم بدأت تصفية جديدة — لا للخصوم، بل للوجوه التي لم تصفق كفاية.

أمَّا الشعب، فقد اختار خيار الصمت، أو ربما نذر لسانه قربانًا لسلامٍ داخليٍّ مريح.

ثم جاءت تشرين،

فخيّلناها "نهضة العملاق"، فإذا بها مسرحية حزينة بلا جمهور.

اغتيل صفاء السراي ورهام يعقوب، وبقي العملاق على شرفته يتناول المكسرات ويتأمل.

زار بعضهم منصات الكرامة كما تُزار المراقد، يلتقطون الصور ويأكلون مما تبرّع به الثوار.

وهكذا مُنحت السلطة صكّ غفرانٍ مجاني، وتحول الوطن إلى وليمة لمن لا يشبع.

قلت لنفسي، في لحظة رومانسية متأخرة:

هذه المرة سيثور الشعب ولو على سعر البصل،

لكنه لم ولن يفعل.

اليوم بعد اغتيال صفاء المشهداني، لا جديد:

الصمت سيد الموقف، والجمهور في مقعده الخلفي، يصفّق بخفة وهو نائم.

تذكّرت حينها نزار قباني و"السياف العربي"، وسمعت الطبقة السياسية تردد بنغمة واحدة:

"كلما فكرت أن أتركهم، فاضت دموعي كغمامة،

وتوكلت على الله… وقررت أن أركب الشعب،

من الآن… إلى يوم القيامة".

وهنا فقط فهمت الدرس.

الديمقراطية ليست صندوق اقتراع، بل مرآة.

ويا للأسف، المرآة عندنا تعكس جمهوراً يبتسم وهو يُساق إلى الذبح… بأدبٍ شديد.

فإذا كان الشعب قد اختار الصمت طوعًا، لماذا ألوم "الراكب"؟

وإذا صار الخوف مذهبًا وطنيًا، فلماذا أزعجهم بالحديث عن العدالة؟

ربما نحن أول أمة في التاريخ وقّعت عقدًا جماعيًا بين الجلاد والضحية، عنوانه:

"نحن شعب يُركب… فاركبونا بلُطف".


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.