"عواجيز الفرح" في مصطلحنا نحن المصريين نعني به أولئك العجائز اللواتي ينتحين جانبًا في الأعراس، فيتصفحن وجوه المدعوات، ويقسن بأبصارهن أثوابهن وما اشتملت عليه أثوابهن من صواعد وهوابط، ثم بعد فراغهن من المعاينة يأخذن في أخبار الآتية والذاهبة، فيعبن ذي، ويلمزن تي، ويلحظن شزرًا هذه، ويمصصن شفاههن لتلك، فلا يعجبهن العجب ولا الصيام في رجب!
ولقد وجدتني يوم "قمة شرم الشيخ للسلام" في 13 تشرين الأول (أكتوبر) 2025 مضطرًا أن آخذ مقعد "عجائز الفرح" هؤلاء، فأنظر وأعجب، وأفكر وأقدر، ثم أقول في نفسي لو كان كذا وكذا، وليتهم أبدلوا هذا بذا، وليس ذلك مني عن هوى للهمز واللمز والطعن، بل غيرة مني على داري، وأهل داري، وجيران داري.
وقبل أن نعدد المآخذ فإننا نهنئ إخواننا في غزة بصمت المدافع ولو إلى حين، ونهنئ إخواننا الأسرى بانعتاقهم من القيد والغل، ونتمنى لهم دوام الأمن، ورخاء العيش.
فأما أول المآخذ على "اتفاق شرم الشيخ" فغياب التفاصيل! فلا يكاد الناس يعلمون من أمره إلا إطلاق العشرين أسيرًا إسرائيليًا الأحياء، وأخذ رفات الثمانية والعشرين الهالكين، فهؤلاء هم المذكورون الحاضرون، ولا شيء حاضر سواهم! فهل هؤلاء هم الاتفاق؟! أين حقوق المئة ألف نفس التي أزهقت في غزة؟! وأين أضعافهم من المصابين والمقعدين؟! وأين حق البلاد التي دُمِّرت تدميرًا؟! وأين عقوبة الجاني؟! لا جواب، ولا تفاصيل عن شيء، ولا يكاد الناس يعلمون شيئًا من بنود الاتفاق، ولا مواقيته، ولا يكاد الصحفيون يذكرون شيئًا عن ذلك، بل أزعم أنهم لا يعلمون من أخبار الاتفاق شيئًا إلا ما يسترقونه استراقًا، أو يلقيه إليهم بعض منتسبي المخابرات، أو يناجيهم به بعض الساسة في بعض الأسمار! فهل هذا اتفاق يُدعَى إليه أهل المشرق والمغرب؟! أم هو اتفاق خدعة لاستخراج العشرين أسيرًا إسرائيليًا وكفى؟!
وثاني المآخذ على هذا الاتفاق هو أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب خاطب أهل الكيان في الكنيست خطاب المحب لحبيبه، المتشرف بمثوله أمامهم، المتوسل إليهم بسوابقه في تأييد دولتهم في مواطن كذا وكذا، والتوسعة عليهم بأراضي الآخرين، وتباهيه باعترافه بالقدس عاصمة للكيان ونقل سفارته إليها في ولايته الأولى، ثم حين ذكر الفلسطينيين أمّلهم بالسلام، وحثهم على نبذ العنف! فهذا التودد والتزلف (ولا أقول الخطبة) لم يكن ينقصه إلا أن يختمه بالجملة: خادم إسرائيل المطيع: دونالد ترامب!
فالرجل الذي أراد نفسه ضامنًا وزعيمًا بالاتفاق كان الأجدر به لو قلل شيئًا ما من هذا التقرب والتزلف ليبدو للآخرين جديرًا بالثقة، حقيقًا بالزعامة، لكن حديثه بين يدي الكنيست فضحه، فرآه العالم محابيًا الإسرائيليين، ومتحاملًا على أهل الأرض الفلسطينيين، فهو مظنون في وساطته، متهم في ضمانته، مردودة عليه محاباته، فكيف بعد هذه المحاباة الفاضحة يرجو سلامًا لأحبابه؟!
لقد ظنَّ الأوروبيون في 1919 أن اتفاق إذلال ألمانيا المسمى "صلح فرساي" قد أطفأ نار الحرب العالمية الأولى وجاء بالسلام، فكان المداد الذي كُتب به "صلح فرساي" هو وقود الحرب العظمى الثانية!
أما ثالث المآخذ على هذه القمة فليست لترامب، ولكن هي عتاب لأنفسنا، وغيرة على مقام الرئاسة المصرية، فمن قبل الاتفاق كان ترامب يدعو أولاء وهؤلاء من القادة والرؤساء كأنه سيستضيفهم في مضيفة داره! فلما جاء مصر وقد كانت القمة على أرضها بسيناء، والوفود في ضيافتنا بشرم الشيخ، تُرِك هو ليتفرد باللقطة؟! وبلسان أهل الفن تُرِك ترامب ليأخذ "السوكسيه" وحده! فبدا ترامب كأنه رب المؤتمر والوفود ضيوفه؟! ولما وقف متحدثًا وجمع من خلفه الرؤساء والقادة كان على منبره الذي يتحدث منه شعار الرئاسة الأميركية! لقد خُلِّيَ بين ترامب وبين المؤتمر حتى ظن الراؤون أنه في أحد منتجعاته الخاصة وليس في شرم الشيخ المصرية؟!
لقد كنا نعلم أن ترامب رجل يشتهي الزهو والتيه، فكنا نستطيع أن نجعل محادثات شرم الشيخ تمهيدًا وتوطئة للاتفاق، ونعتذر عن استضافة الاتفاق الكبير، فإن شاء هو أن يعقد قمته في أحد فنادقه الباذخة أو منتجعاته الفخمة فله ذلك، وله أن يدعو إليها من يشاء، ويحجب عنها من يشاء، ويوقع على ما شاء، ويضع شعار الرئاسة الأميركية حيث شاء، (ويأخذ السوكسيه) كما يشاء، كما كان في اتفاق (أوسلو 1993)، فأخذ الاتفاق اسم عاصمة النرويج التي كانت بها محادثاته السرية، ثم وقعوه في واشنطن حيث عُقد المؤتمر، أما أن يأتي بلادنا ليبدو هو سيدًا للمؤتمر، ونبدو نحن كعمال الفِراشة في حفلته، فكان الأجدر بنا غير هذا.