تتنفس غزة الصعداء في ظل سكون حذر، بعد أن أتى اتفاق وقف إطلاق النار على أعقاب حرب أكلت الأخضر واليابس. وبينما تشهد المنطقة محاولات متقدمة لتثبيت هذه الهدنة، تتجه الأنظار إلى مفاوضات شرم الشيخ التي تمثل أحدث فصول المساعي الإقليمية والدولية لوضع حد نهائي للنزاع، وإرساء ترتيبات سياسية لما بعد الحرب. وفي خضم هذا الحراك المتسارع، تتجدد الاتهامات الموجهة إلى حركة حماس، التي يرى منتقدوها أنها تتحرك تحت شعار “الاهتمام بأهالي القطاع”، بينما تسعى في الواقع إلى استعادة حكم غزة وترميم صورتها السياسية بعد سنوات من العزلة، غير آبهة بالكلفة البشرية والاقتصادية التي يتحملها السكان.
الحرب التي أرهقت القطاع وكشفت عن مشهد فلسطيني ممزق، بين فصائل متناحرة واحتلال يستثمر في الانقسام، تضع حماس في مركز الانتقاد المرير. يجادل الكثيرون بأن الحركة كان يمكنها أن تُنهي الحرب في مراحل مبكرة، بعد تحقيق قدر من الصمود، لكنها آثرت الاستمرار في المواجهة لإثبات ثقلها السياسي والعسكري، وفرض واقع جديد على طاولة المفاوضات. هذه الرؤية تشير إلى أن قيادة الحركة ربما تكون قد بالغت في الرهان على “النصر” المطلق في ظل توازن قوى مختل، وهو ما جعل المدنيين يدفعون الثمن الأفدح من حياتهم وبيوتهم ومستقبلهم. إن استعادة الحكم على ركام لا يساوي شيئاً أمام عودة الحياة والكرامة، ويشير بوضوح إلى أن حسابات البقاء السياسي للحركة تقدمت على مصلحة البقاء الإنساني للسكان.
منذ بداية العمليات العسكرية، كانت الأهداف واضحة لكلا الطرفين. إسرائيل سعت لإنهاك الحركة وتفكيك بنيتها العسكرية وفرض واقع ميداني يضمن أمنها. أما حماس، فكانت مصممة على الصمود، معتبرة أن إنهاء الحرب دون تحقيق “صورة النصر” أو فرض شروط قوية سيعني خسارة رمزية تفوق الخسارة المادية. هذه الحسابات المتبادلة حول “النصر” و”الأمن” حولت غزة إلى ساحة اختبار مفتوحة، يُسفك فيها دم الأبرياء على مذبح إثبات الذات السياسية للقيادات التي تدير الصراع من بعيد.
الهدنة الحالية، التي جاءت بعد وساطات مكثفة، ليست هشة ميدانيًا بقدر ما هي هشة سياسيًا. فقد أوقفت القتال فعلاً، لكنها لم تضع حدًّا للتجاذب حول مرحلة ما بعد الحرب. فملف إدارة القطاع لا يزال معلقًا بين ثلاثة أطراف متناقضة: إسرائيل التي تريد ضمان أمنها عبر ترتيبات طويلة الأمد، والسلطة الفلسطينية التي تسعى لاستعادة دورها، وحماس التي ترفض الإقصاء وتطالب بأن تكون جزءًا أصيلاً من أي معادلة قادمة.
المفاوضات في شرم الشيخ كانت وما زالت لحظة اختبار حقيقية. فالجهود المبذولة لـ “تثبيت” وقف إطلاق النار وتحويله إلى اتفاق دائم يشمل انسحابًا تدريجيًا للقوات الإسرائيلية وبدء عملية إعادة إعمار واسعة، تصطدم بالخلافات العالقة حول ملف الأسرى وترتيبات الأمن. إن الإصرار المتبادل على تحقيق أقصى المطالب يهدد بتقويض المسار برمته، ويدفع باتجاه تجدد الصراع.
وسط هذه التعقيدات، يبرز النقاش حول دور حماس ومسؤوليتها الأخلاقية والسياسية. صحيح أن الحركة تواجه احتلالًا وحصارًا دوليًا خانقًا وظروفًا استثنائية، لكن قراراتها خلال الحرب أثارت جدلاً واسعًا حتى داخل الأوساط الفلسطينية. فالمسؤولية تتطلب تقديم الإغاثة والمصلحة العامة على أي انتصار رمزي، ولهذا يرى المنتقدون أن حماس استخدمت معاناة السكان كأداة ضغط سياسية، وراهنت على استثمار الحرب لتأكيد حضورها كفاعل لا يمكن تجاوزه.
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل أن أصابع الاتهام لا تتجه إلى حماس وحدها؛ فإسرائيل تعمّدت تحويل القطاع إلى نموذج للعقاب الجماعي الانتقامي، في محاولة لتكريس معادلة “الأمن مقابل الدمار”، وهو ما يجعل تحميل حماس المسؤولية وحدها ضربًا من التبسيط والتعامي عن مسؤولية القوة المحتلة. الآلة العسكرية الإسرائيلية لم تميز بين مقاتل ومدني، بل سعت إلى تدمير البنية الحياتية بشكل ممنهج، مما جعل الخيارات المتاحة أمام قيادة غزة ضيقة ومحفوفة بالمخاطر.
إن حماس اليوم تقف أمام امتحان وجودي لا يقل خطورة عن معاركها العسكرية. فالحركة التي بنت شرعيتها على “المقاومة” تجد نفسها مطالبةً بإثبات قدرتها على حماية شعبها وتقديم خطة واقعية لإنقاذه من الكارثة، لا فقط على حشد الشعارات والمطالب العليا. وبين الطرفين، يبقى الفلسطيني البسيط – الذي خسر منزله وأطفاله وأحلامه – هو الخاسر الوحيد من حرب لم تعد تملك تبريراً أخلاقياً ولا أفقًا سياسيًا واضحًا.
لقد آن الأوان لأن يدرك الجميع أن غزة ليست ميدانًا لتصفية الحسابات السياسية، بل قلب القضية الفلسطينية الذي يجب أن يُبنى على قاعدة جديدة قوامها: لا مقاومة بلا مسؤولية، ولا حكم بلا محاسبة، ولا سلام يقوم على أنقاض البشر.