: آخر تحديث

نتنياهو وخطة ترامب: من إخفاق الأمن إلى هندسة السياسة

2
1
1

لم يكن قبول بنيامين نتانياهو بالخطة الأميركية لوقف الحرب في غزة أو لترتيبات اليوم التالي مجرد استجابة لضغط سياسي أو مناورة تكتيكية عابرة، بل كان تعبيرًا عن تحوّل عميق في معادلة القوة داخل إسرائيل، وعن إدراك متأخر بأن أدوات السيطرة التي اعتمدها قرابة عقدين لم تعد كافية لضمان البقاء السياسي. فبعد السابع من تشرين الأول، لم يعد نتانياهو يتعامل مع أزمة أمنية فحسب، بل مع أزمة وجودية متعددة الجبهات: تآكل الثقة بينه وبين المؤسسة العسكرية، وانكشاف أمام الحليف الأميركي، وتصدّع داخل صفوف اليمين نفسه، وغضب شعبي متصاعد من عائلات الأسرى والرأي العام الإسرائيلي الذي فقد الثقة بقدرته على حمايتهم. ومن هنا جاء القبول بالخطة الأميركية كمحاولة لإعادة ضبط المشهد الداخلي والدولي، وتحويل النقاش من "من أخفق؟" إلى "كيف تُدار المرحلة التالية؟"، أي من ساحة الأمن والمساءلة إلى ساحة السياسة وإعادة الترتيبات المستقبلية.

أدرك نتانياهو أن هامش المناورة بين تل أبيب وواشنطن أصبح ضيقًا إلى حدّ الخنق. فقد استخدم ترامب لغة الإنذار لا التفاهم، مهددًا بأن استمرار الحرب دون أفق سياسي سيعزل إسرائيل ويعرّضها لانكشاف استراتيجي خطير. وبعد عامين من الاستنزاف العسكري والدبلوماسي، أصبحت إسرائيل تعتمد كليًا على الغطاء الأميركي في الدعم العسكري وفي حماية قادتها من الملاحقات الدولية والعزلة الدبلوماسية. لذلك، لم يكن أمام نتانياهو إلا الامتثال، لأنه يعلم أن أي صدام مع واشنطن يعني سقوطه سياسيًا وأمنيًا، خاصة أن المؤسسة العسكرية تعتبر العلاقة مع الولايات المتحدة "أكسجين بقاء" لإسرائيل. في الوقت نفسه، ومع طول أمد الحرب وتفاقم صور الدمار في غزة، وجدت إسرائيل نفسها في مواجهة مباشرة مع الرأي العام العالمي، بما في ذلك داخل الغرب نفسه، وأصبح استمرار العمليات العسكرية عبئًا أخلاقيًا وسياسيًا على مكانة إسرائيل، أكثر من كونه ورقة ضغط على خصومها. في هذا السياق، جاء القبول بخطة ترامب كإجراء لتقليل الخسائر المعنوية، واستعادة الحد الأدنى من القدرة على التواصل مع العواصم الأوروبية المتذمّرة من السلوك الإسرائيلي.

ترافق هذا الضغط الخارجي مع تصدّع غير مسبوق في بنية الحكم الإسرائيلية على عدة مستويات. فداخل اليمين نفسه، بدأ يتشكّل تمرّد صامت، خاصة من معسكر الأمن القومي وبعض وزراء "الليكود الجدد" الذين يتهيّأون لمرحلة ما بعد نتانياهو. وفي أروقة المؤسسة العسكرية والاستخباراتية، ترسّخت قناعة بأن استمرار الحرب بلا خطة سياسية خطر وجودي على أمن الدولة. ولعل القبول الجماعي للحكومة الإسرائيلية بأكملها بخطة ترامب، بما في ذلك أعضاؤها من اليمين المتطرف، يكشف عن عمق الأزمة وحجم الضغط الذي مورس على الجميع. فحتى الأصوات الأكثر تشددًا، التي كانت ترفض أي تسوية، وجدت نفسها مضطرة للإذعان أمام واقع لا يحتمل المكابرة: إما القبول بالخطة الأميركية، أو المخاطرة بانهيار العلاقة مع واشنطن، وما يترتب على ذلك من عزلة استراتيجية كاملة. هذا الإجماع القسري داخل الحكومة لم يكن نابعًا من قناعة سياسية، بل من إدراك جماعي بأن البدائل المتاحة جميعها أسوأ، وأن الرفض سيعني كارثة أمنية وسياسية لا تُحتمل عواقبها.

وفي الشارع الإسرائيلي، تصاعد الغضب من اتجاهات متعددة. عائلات الأسرى في غزة تحوّلت إلى قوة ضغط يومية تتظاهر أمام مقر الحكومة، وتطالب بصفقة تبادل فورية، متهمة نتانياهو بالتضحية بأبنائها من أجل بقائه السياسي. هذا الضغط الشعبي، المدعوم بتعاطف واسع من الرأي العام الإسرائيلي، حوّل قضية الأسرى إلى اختبار أخلاقي وسياسي لشرعية الحكومة. كما أن استطلاعات الرأي المتتالية أظهرت تراجعًا حادًا في شعبية نتانياهو، حيث يحمّله الإسرائيليون المسؤولية الأولى عن الفشل الأمني في السابع من تشرين الأول. هذا الضغط الشعبي المزدوج، من عائلات الأسرى الباحثين عن حلّ سريع، ومن الجمهور الغاضب من الإخفاق الأمني، حدّ من قدرة نتانياهو على المناورة، ودفعه نحو القبول بخطة توفر له مخرجًا من المأزق، ولو مؤقتًا.

وإلى جانب كل هذا، يظل نتانياهو مطاردًا قضائيًا في ثلاث قضايا فساد رئيسية لا تزال محاكماتها مستمرة. هذا البعد القانوني ليس منفصلًا عن حساباته السياسية، بل هو جزء عضوي منها. فبقاؤه في السلطة يوفر له حصانة سياسية، ويمنحه القدرة على التأثير في المنظومة القضائية بشكل غير مباشر. سقوطه السياسي يعني مواجهة مباشرة مع القضاء دون أي درع حماية. لذلك، فإن كل قرار سياسي يتخذه نتانياهو محسوب أيضًا بمقياس: كيف يؤثر على بقائي في السلطة لأطول فترة ممكنة؟ القبول بالخطة الأميركية في هذا السياق ليس فقط استجابة لضغط خارجي، بل استثمار في تمديد عمر حكومته، وبالتالي في تأجيل المواجهة القضائية الحتمية. إن السيف القانوني المعلّق فوق رأسه يجعل من البقاء السياسي ضرورة حياتية بالنسبة له، لا مجرد رغبة في السلطة، وهو ما يفسر جزءًا كبيرًا من تشبثه بالمنصب، حتى في أحلك الظروف.

وفي المقابل، يدرك نتانياهو أن الخطر الأكبر على مستقبله ليس ملفات الفساد القديمة، بل الفشل الأمني في السابع من تشرين الأول، الذي كشف خللًا في منظومة الردع والعقيدة العسكرية الإسرائيلية. لذلك، شكّل القبول بالخطة الأميركية وسيلة لتغيير مسار النقاش العام من مساءلة عن الفشل إلى جدل حول إدارة غزة بعد الحرب، أي من يملك مفاتيح السيطرة السياسية والأمنية فيها. فهو لا يعنيه إعادة إعمار غزة، بل إعادة تشكيل منطق السيطرة عليها، بحيث تبقى إسرائيل ممسكة بالمفاتيح الأمنية والمعابر والمعلومات، دون أن تتحمّل كلفة الاحتلال المباشر. بهذا المعنى، استخدم نتانياهو الخطة الأميركية كأداة هروب إلى الأمام، محوّلًا النقاش من الأمن إلى السياسة، ومن المحاسبة إلى إدارة البقاء. إنه يراهن على أن الانشغال بتفاصيل اليوم التالي وبترتيبات الحكم في غزة والتنسيق مع الأطراف الإقليمية سيصرف الأنظار عن السؤال الأساسي الذي يطارده: كيف حدث السابع من تشرين الأول تحت قيادته؟

وعلى المستوى الإقليمي، يشعر نتانياهو أن صعود الدور السعودي في ترتيبات ما بعد الحرب قد يفضي إلى نظام إقليمي جديد تصبح معه إسرائيل معزولة بشكل أكبر، وبالذات أن السعودية برهنت على ثقلها السياسي والاقتصادي حين قادت مع فرنسا مشروع حل الدولتين، من خلال تحقيق تقدّم غير مسبوق في حشد جهد دولي للاعتراف بدولة فلسطين، إذ تجاوز 82% من دول العالم تعترف بدولة فلسطين. وهذا ما أدركه ترامب بشكل أكبر حين قال لنتانياهو: "لن تستطيع أن تحارب العالم بأكمله". ومن هنا خشيته أن تُعاد، مع هذا الدور، صياغة موازين القوى دون أي اعتبار لإسرائيل. ومن هنا تأتي أهمية الخطة الأميركية بالنسبة له، إذ تمنح إسرائيل مقعدًا محميًا في هندسة اليوم التالي، وتضمن ألا تُعاد صياغة الإقليم من دونها. فالقبول بالخطة ليس فقط استجابة للضغوط، بل استثمار في البقاء داخل المعادلة الإقليمية التي تُعاد هندستها برعاية أميركية. إنه يدرك أن غيابه عن طاولة المفاوضات يعني تهميش إسرائيل في ترتيبات المنطقة، وأن الدول العربية الكبرى قد تتفق على صيغ لا تأخذ في الاعتبار المصالح الإسرائيلية بالشكل الذي يريده. لذلك، فإن الانخراط في الخطة الأميركية يمنحه فرصة للتأثير في مسار الأحداث، بدلًا من أن يكون مجرد متفرّج على إعادة رسم خريطة النفوذ في المنطقة.

في جوهره، يعكس قبول نتانياهو لخطة ترامب تبدّل مركز الفعل داخل إسرائيل: من زعيم يفرض على المؤسسة العسكرية والسياسية رؤيته، إلى رئيس حكومة يتحرك ضمن هوامش تضبطها واشنطن، وتحرسها المؤسسة الأمنية، وتحاصره الضغوط الشعبية. لقد خسر نتانياهو قدرة "التحكم"، وبات يسعى إلى "الاحتواء"، وتحولت الخطة الأميركية من مبادرة سياسية إلى وسيلة لإدارة أزمة الزعامة داخل إسرائيل نفسها. لكن السؤال الذي يبقى مفتوحًا: هل هذا التحوّل نهائي أم مؤقت؟ تاريخ نتانياهو السياسي مليء بلحظات "النهاية" التي أعقبتها عودات مفاجئة وانقلابات درامية في موازين القوى. فهو سياسي محنّك، يجيد استثمار الأزمات لصالحه، وقد نجا من مآزق بدت مستحيلة في السابق. لكن هذه المرة، الأزمة ليست في قضية فساد أو خلاف سياسي عابر، بل في فشل أمني تاريخي وفقدان ثقة الجمهور والمؤسسة الأمنية معًا. ومع كل ما تحمله الخطة الأميركية من تنازلات، تبقى بالنسبة له جسر النجاة الأخير، قبل أن تبتلع المحاسبة السياسية إرثه بأكمله، وتضع نهاية لعصر "إسرائيل التي كانت تملي شروطها"، لتبدأ مرحلة "إسرائيل التي تبحث عن شروط بقائها". والاختبار الحقيقي ليس في قبوله بالخطة، بل في قدرته على البقاء بعد تنفيذها، وفي قدرته على تحويل هذا القبول الاضطراري إلى انتصار سياسي يعيد له جزءًا من الزخم المفقود. وهو رهان يبدو هذه المرة أصعب من كل ما سبق، ويحمل في طياته احتمالات متعددة: إما أن ينجح في تجاوز العاصفة مرة أخرى بمهارته المعهودة، أو أن تكون هذه الخطة بداية النهاية الفعلية لحقبة نتانياهو الطويلة في قيادة إسرائيل.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.