بعد يومٍ تاريخي آخر من المعاناة، وفي الثالث عشر من تشرين الأول (أكتوبر) 2025، توقّفت أصوات القصف في غزة مؤقتًا بموجب اتفاقية وقف إطلاق نار بوساطة مصر وقطر وأطراف دولية، رعاها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ووقّعتها الدول الأربع لإطلاق زخم جديد نحو السلام في فلسطين.
لكنّ هذه اللحظة حملت شعورًا قويًا بـ"الديجافو"، كأنّ التاريخ يعيد نفسه. فمنذ أكثر من عقد، وتحديدًا في 18 أيار (مايو) 2013، نشرتُ مقالًا في صحيفة "المدينة" السعودية بعنوان "دبلوماسية الانتفاضة"، حذّرتُ فيه من أنّ تجاهل الحقوق الفلسطينية وإغلاق أبواب الأمل السياسي سيؤدّي حتمًا إلى انفجار جديد، قد يكون أشدّ ضراوة من سابقيه.
وقف إطلاق النار: خطوة إنسانية أم هدنة هشّة؟
إنّ وقف إطلاق النار وإعادة إعمار غزة خطوتان إنسانيتان ضروريتان، لكنّ التاريخ يخبرنا أنّهما يتحوّلان إلى "مجرد هدنة هشّة" إذا لم تكونا جزءًا من خطة سياسية شاملة. الطريق الواقعي الوحيد، والذي تؤكّده أحداث العقد الماضي، يكمن في تحويل القضية الفلسطينية من قضية مزمنة تثير الحروب إلى قضية تنتهي بحل الدولتين، ولكن هذه المرة بآليات تنفيذ مختلفة جذريًا، تمنع تكرار سيناريو الفشل الذي تنبّأنا به.
المملكة العربية السعودية: مهندس السلام
لم تأتِ فكرة حل الدولتين من فراغ. ففي عام 2002، قدّمت المملكة العربية السعودية مبادرة السلام العربية في قمة بيروت، وهي رؤية استراتيجية تضمنت:
التطبيع الكامل مع إسرائيل مقابل انسحاب كامل من الأراضي المحتلة عام 1967.
إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
إيجاد حل عادل لقضية اللاجئين وفقًا لقرارات الأمم المتحدة.
هذه المبادرة، التي تبنّتها الجامعة العربية، كانت نقلة نوعية في الدبلوماسية العربية، وتثبت الأحداث اليوم أنّها لا تزال السبيل الوحيد للسلام. لكنّ المبادرات وحدها لا تكفي، والتحدّي يكمن في التنفيذ.
الدور السعودي: من المبادرة إلى التنفيذ
كانت مبادرة السلام السعودية (بيروت 2002) هي الحل الوحيد المتكامل والمتماسك على الطاولة. لكنّ الدرس الأهم هو أنّ المبادرات تظل حبرًا على ورق دون آليات تنفيذ قوية. لذلك، يجب أن يتحوّل الدور السعودي الآن من "صاحب مبادرة" إلى "مهندس لتنفيذها وضامن لاستمراريتها"، من خلال:
1. الضمانة السياسية والمالية: قيادة تحالف دولي - عربي لإعادة الإعمار، بحيث تكون الأموال والسيولة مرتبطة ارتباطًا عضويًا بخطوات تنفيذ الحل السياسي. لا إعمار دون إنهاء حقيقي للاحتلال.
2. تحويل المبادرة إلى خارطة طريق عملية: المطلوب الآن ليس إحياء المبادرة، بل تحويلها إلى "آلية تنفيذ" ذات جدول زمني واضح وآليات رقابة دولية. يجب أن تكون هناك عواقب واضحة لأي طرف يعرقل التنفيذ.
3. استخدام ورقة النفوذ بشكل استباقي: تمتلك المملكة ورقة ضغط فريدة تتمثل في علاقاتها الاستراتيجية المتوازنة مع جميع الأقطاب الدولية. هذا الموقع يمكن – ويجب – استخدامه للضغط المباشر على إسرائيل للجلوس إلى طاولة المفاوضات الجادة، مع طمأنة الجانب الفلسطيني بأنّ اللعبة الدبلوماسية هذه المرة مختلفة.
الاستعداد للفشل: استراتيجية الردع الدبلوماسي
التخطيط للسلام يجب أن يرافقه الاستعداد لاحتمال فشله. إذا عادت إسرائيل إلى العدوان، يجب أن تدرك أنّها تواجه عواقب استراتيجية مختلفة تمامًا، من خلال:
تصعيد دبلوماسي مشروط: قيادة حملة عربية - إسلامية لمراجعة جميع اتفاقيات التطبيع وخفض مستوى التمثيل الدبلوماسي مع إسرائيل بشكل فوري.
ملاحقة قانونية شاملة: استخدام الثقل السياسي السعودي والدولي لدفع ملف محاكمة قيادات إسرائيلية أمام المحاكم الدولية بشكل أكثر فاعلية.
خلق واقع دولي جديد: قيادة حملة للحصول على اعتراف كامل بعضوية دولة فلسطين في الأمم المتحدة، لتحويل القضية من "نزاع" إلى "قضية دولة محتلة" في القانون الدولي.
نحو شرق أوسط جديد
الفرصة الحالية هشّة ولكنها قابلة للتحقيق. المملكة العربية السعودية، بثقلها الدبلوماسي ومكانتها الفريدة، هي الأقدر على قيادة هذه المرحلة المصيرية، في التحوّل من إدارة الأزمة إلى إنهائها. ليس فقط بدبلوماسية الوساطة، بل بدبلوماسية خلق البدائل الاستراتيجية.
المطلوب هو تحويل مبادرة السلام إلى واقع ملموس عبر آليات تنفيذ وضمانات تجعل العنف خيارًا غير مجدٍ. ندعو الشعوب العربية والمجتمع الدولي إلى دعم هذه الرؤية من خلال الضغط على حكوماتهم لتبنّي خارطة طريق مُلزمة. بهذا يمكن أن تنتهي واحدة من أطول القضايا التي أرّقت ضمير الإنسانية، ويولد شرق أوسط قائم على العدل والسلام بدلاً من الاحتلال والحروب.