وجه لا يحمل ملامح الزعامة التقليدية، ونبرة أقرب إلى صوت موظفٍ يشرح خطة يومية أكثر منها خطابًا سياسيًا، يختبئ في مشروع رجلٍ يحاول أن يعيد للدولة معناها في بلدٍ كاد ينسى شكلها... إنّه رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني الذي قد لا يطلب المجد، وإنما يحاول أن يُنقذ فكرة… فكرة أنّ الدولة يُمكن أن تُدار بالعقل وليس بالسلاح، وأن الزعيم لا يحتاج إلى الصراخ كي يُسمع.
من رحم التجربة العراقية المتأرجحة بين الحرب والعقوبات وبين الطوائف والمصالح، خرج هذا الرجل الهادئ حاملاً مشروعًا يبدو متواضعًا في ظاهره، لكنّه بالغ الطموح في جوهره. ومفادها إعادة تعريف السياسة كإدارة للعقل وليس للغريزة.
في بلدٍ يستهلك زعماءه بسرعة، ويحرق خطباءه في الميكروفون قبل أن يكتمل صداهم، يختار السوداني طريقًا مختلفًا. طريق الصبر، الإصلاح البطيء، والنتائج القابلة للقياس.
الذين عرفوه يقولون إنّ الرجل لا يتصنّع أو يختلق الهتاف، لكنّه يملك ما هو أندر من ذلك، وهو القدرة على الإنصات، وعلى تحويل الهدوء إلى أداة حكم. خرج من بيئةٍ فقيرة في جنوب العراق، من محافظة ميسان التي لم تلد الساسة بقدر ما أنجبت الصابرين.
هناك، أُعدم والده على يد نظام صدام حسين، وتعرّضت عائلته للملاحقة والمنع والتضييق، لكنّه لم يحمل التجربة كعبء انتقام، بل كتمرينٍ على الصبر. كان الابن الأكبر الذي رأى الدولة من الداخل وهي تتحول إلى سجنٍ كبير، ثم شهد سقوطها وهو في المكان نفسه. ربما لهذا لا يثق السوداني بالشعارات الكبيرة، ولا بالثورات السريعة.
في داخله ميلٌ ملفت إلى الواقعية. تخرّج من كلية الزراعة، وبدأ حياته المهنية بين الفلاحين والمزارعين، في بيئة العمل اليومي البسيط التي تُقاس فيها النتائج بالزرع والحصاد لا بالتصفيق والشعارات. هناك تعلّم أنّ الدولة لا تُبنى بالبيانات بل بالمواسم، وأن كل مشروع يحتاج وقتًا ومتابعة كي ينضج مثل الثمار.
هذه التجربة جعلته، حين دخل المعترك السياسي، يتصرّف بعقلٍ إداري بارد أكثر منه عقلًا أيديولوجيًا متهورًا.
في السلطة، لا يميل إلى الاندفاع ولا إلى المناورة. يُدرك أن العراق لا يُحكم بالعواطف، وأن التوازن هو مفتاح البقاء. لهذا يمسك العصا من الوسط بين كل القوى المتناقضة: لم يدخل في صدامٍ مفتوح مع الفصائل الموالية لإيران، لكنّه أيضًا لم يسمح بابتلاع الدولة، ونجح في ضبط إيقاع العلاقة بين الجيش والحشد الشعبي من دون تفجيرها. هذه المعادلة هي ما أبقته واقفًا وسط زوابع السياسة العراقية.
وفي السياسة الخارجية، يكرّر الدرس نفسه: العراق ليس ساحة لتصفية الحسابات، بل جسرٌ للتواصل. يوازن علاقاته بين طهران وواشنطن بذكاءٍ بارد، ويتعامل مع الدول العربية والخليجية بمنطق "الندية الهادئة" لا التبعية. يرى السوداني أنّ سيادة العراق لا تتحقق بالصدام، بل بتثبيت فكرة أنّ القرار الوطني لا يُستعار من الخارج. لذلك يدفع باتجاه الحوارات الإقليمية، ويقترح دائمًا حلولًا تحفظ للجميع ماء الوجه. هذا الهدوء ليس ضعفًا، بل جزء من فلسفته في الحكم: كسب الوقت بدل كسب التصفيق.
في الداخل، يواجه السوداني تحديًا مختلفًا: كيف يثبت أن الدولة قادرة على الإصلاح من دون أن تغرق في الفوضى. لذلك يحرص على أن يتحدث بلغة الأرقام لا الوعود. حين يقول إن إنتاج الكهرباء بلغ 28 ألف ميغاواط أو أن الحكومة استرجعت 500 مليار دينار من الأموال المسروقة، فهو لا يستعرض أرقامًا بل يقدّم أدلة على أن الدولة لا تزال ممكنة. في منطقه، الدولة ليست شعارًا، بل شبكة عمل تُدار بالكفاءة لا بالولاء.
يفهم السوداني أنّ التنمية ليست ترفًا بل شرط بقاء. العراق، كما يكرر دائمًا، بلد شاب، نصف سكانه تقريبًا دون الخامسة والعشرين. إذا لم يجد هؤلاء فرصًا حقيقية، ستتحول الطاقة إلى غضب. لذلك يسعى إلى توسيع الاستثمارات في الطاقة والزراعة والبنى التحتية، معتبرًا أنّ "الأمن يبدأ من العمل". ومن هنا تأتي رغبته في تحويل العلاقة مع الولايات المتحدة من شراكة أمنية إلى شراكة اقتصادية طويلة الأمد.
أما في الملف الأمني، فيصرّ على أنّ "قرار السلم والحرب بيد الدولة وحدها"، وهو ما يعكس فهمًا واضحًا لطبيعة الصراع الداخلي. لا يريد تكرار تجارب التصادم بين الحكومة والفصائل المسلحة، لكنّه أيضًا لا يقبل منطق ازدواجية القرار. يسير بخطوات محسوبة لإعادة احتكار القوة بيد الدولة، خطوة تلو أخرى، من دون أن يطلق رصاصة واحدة. في هذه المعادلة الصعبة، تبدو براغماتيته شكلًا من أشكال الشجاعة الهادئة.
في تعامله مع الفساد، لا يعتمد على الصخب الإعلامي بل على تفكيك المنظومة من الداخل. فتح ملفات كبيرة، أبرزها "سرقة القرن"، وبدأ ملاحقة المتورطين في الخارج بالتعاون مع الإنتربول. يتحدث عن مكافحة الفساد كما يتحدث عن الزراعة: تحتاج موسمًا وجهدًا وصبرًا قبل أن تُثمر. وهو يعرف أن الإصلاح في العراق لا يُقاس بالتصريحات بل بالقدرة على تغيير عقل البيروقراطية، وهذا ما يحاول فعله بهدوء.
في إدارته، يميل السوداني إلى ما يمكن تسميته "السلطة الهادئة". لا يُحب الضوء ولا يلهث خلف الكاميرات. يتعامل مع الحكم كوظيفة وطنية لا كمنبر. يُتابع التفاصيل الصغيرة بنفس الجدية التي يُعالج بها الملفات الكبرى، ويُدرك أن الإصلاح في العراق لا يتحقق إلا إذا عادت الدولة لتخدم مواطنيها في أبسط حقوقهم. ولعلّ هذا ما يفسّر لماذا يصفه خصومه بأنه "بطيء"، بينما يراه أنصاره بأنّه "متأنٍ".
في العمق، لا يسعى السوداني إلى أن يكون زعيمًا فوق الدولة، بل أن يجعل من الدولة الزعيم الحقيقي. يؤمن أنّ العراق اليوم بحاجة إلى نظامٍ مستقر أكثر من حاجته إلى رجلٍ قوي. لذلك يكرّر أن استمراره في الحكم ليس طموحًا شخصيًا بل محاولة لتأمين استمرارية المشاريع ومنع تكرار دوامة التغيير الفوضوي. يريد أن يحكم، لا أن يتملّك الحكم.