: آخر تحديث

زمن المثقف الزائف!

3
3
3

أصبحت الساحة الثقافية في أيامنا هذه فضاءً فسيحاً يعجّ بشخصيات كثيرة، بعضها جادّ يبحث بصدق عن مكانٍ آمن له في عالم الفكر والأدب والفلسفة والعلوم، وبعضها الآخر طارئٌ، يلهث وراء وهج الشهرة الزائف دون أن يملك من أدوات المعرفة سوى الصخب والادعاء!

في عالمٍ باتت فيه المنصّات الإلكترونية أكثر رحابة من المكتبات، صار من اليسير أن يظهر من يدّعي امتلاك ناصية الثقافة والوعي، وأن يتقمّص دور المفكر أو الناقد أو الصحافي الكبير، مستعيناً بما تيسّر له من إمكانات مادية تُيسّر له الطريق وتفتح له النوافذ الموصدة أمام العقول الحقيقية. هؤلاء يرفعون أصواتهم عالياً، يملؤون الفضاء بالضجيج، لكنهم في الجوهر لا يملكون إلا فراغاً يردّد صداه.

يستعير بعضهم مفرداتٍ من الماضي والحاضر والمستقبل ليصنع بها قناعاً زائفاً من الحكمة، غير أنّ ما يعكسه واقعهم يثير الشكّ والريبة أكثر مما يثير الإعجاب. صار كلٌّ منهم يغني على ليلاه، يترأس موقعاً إلكترونياً أو صفحة على فيسبوك، ويتباهى بأنه أصبح "رئيس تحرير" أو "كاتباً مؤثراً"، بينما هو عاجز عن كتابة جملة صحيحة لا يشوبها خطأ نحوي أو إملائي.

كأنّهم أطفال في ملعبٍ واسعٍ من الكلمات، يلهون بالحروف دون أن يدركوا خطورتها، ويتفاخرون بسلطةٍ لا أساس لها من علم أو موهبة أو تجربة.

إنّ أمثال هؤلاء، ويا للأسف، كثرٌ في المشهد الثقافي والإعلامي. يطيرون بأجنحةٍ من ورق، ويظنون أنفسهم قادرين على التحليق، بينما يعرف الجميع أنّ رحلتهم قصيرة، لا تتجاوز أرنبة أنوفهم. تراهم يكتبون ويخطئون، يخطّون جملاً مبتورة المعنى، عرجاء التركيب، ويمضون مطمئنين إلى أنّ صراخهم كافٍ لجذب الانتباه. يظنون أن الضجيج موهبة، وأن الحضور في كل مكان دليل عمقٍ وإبداع.

وما يزيد الأمر سوءاً أنّ بعض المثقفين الحقيقيين ــ بدافع المجاملة أو اليأس ــ يشاركون في هذه المسرحية العبثية. يقرأون لهم ويصفّقون، ويملؤون الفضاء بالثناء على نصوصٍ متهافتة، مكرّرة وسطحية، لا تُغني ولا تروي عطشاً فكرياً. يطبلون ويزمّرون، وهم يدركون في قرارة أنفسهم أنهم ينفخون في قربةٍ مقطوعة.

لقد أفرز هذا الواقع نماذج تدّعي العمل الصحافي والثقافي، تستصدر صحفاً ورقية أو مواقع إلكترونية، وتتحدث عن نفسها بوصفها مؤسسات رائدة. يحسب أحدهم أنّ لقب "رئيس التحرير" يمنحه شرعية ثقافية، في حين أنّ الصحافة ــ كما يعرف أهلها الحقيقيون ــ ميدانٌ لا يدخله إلا من كان صادق النية، عاشقاً للحقيقة، مخلصاً للكلمة.

الصحافة ليست مهنة من لا مهنة له، بل رسالة تقتضي العلم، واللغة، والخبرة، والقدرة على قراءة الواقع بعينٍ نقدية وبصيرةٍ إنسانية.

غير أنّ هؤلاء الأدعياء يصرخون بأعلى أصواتهم في الساحة الإعلامية دون جدوى، لأن ما ينشرونه لا يقوم على وعيٍ أو تجربة، بل على ما يكتبه لهم آخرون مقابل ثمنٍ أو مصلحة. بعضهم وصل إلى موقعه بفضل اسم والده أو نفوذ قريبٍ أو صديق، لا يعرف أبجديات اللغة ولا يستطيع "فكّ الخط"، لكنه يوقّع باسمه على مقالات تُكتب له، ويُروَّج لها على أنها إنجاز فكري.

كيف يمكن للصحافة، وهي صاحبة الجلالة، أن تحتمل كل هذا التزييف؟ كيف نسمح لهؤلاء أن يسيئوا إلى مهنةٍ طالما كانت مرآةً للصدق والوعي والتنوير؟ إنّهم يشوّهون وجهها المشرق، ويحوّلونها إلى ساحةٍ صاخبةٍ من الادعاءات، تتناثر فيها الكلمات كأوراقٍ في مهبّ الريح.

إنّ مسؤولية المثقفين الحقيقيين اليوم أن يقولوا كلمتهم، أن يضعوا النقاط فوق الحروف، ويكشفوا هذا الزيف الذي يتسلل إلى الوعي العام، مهدداً الذوق والفكر والإبداع على السواء.

فالصحافي الحقّ ليس من يلهث وراء العناوين، بل من يكتب بحبٍّ وصدق، من يرى في الكلمة سلاحاً نبيلاً للدفاع عن الإنسان والحرية والكرامة. هو مقاتل في معركة الوعي، وجنديّ في ساحة الحقيقة، لا يكتب من أجل نفسه، بل من أجل الناس الذين يثقون به ويقرأون ما بين سطوره.

الصدق هو مقياس النجاح، وهو الذي يمنح الكلمة قوتها وخلودها، لأنه يخفّف من عيوب البشر، ويزرع فيهم الإيمان بأن الكلمة الحرة لا تموت.

أما أولئك الذين يتسابقون إلى الأضواء دون زادٍ من فكرٍ أو ثقافة، فإنهم كمن يركض نحو سراب. يظنون أن الظهور المتكرر يمنحهم شرعية المثقف، وأن الضجيج يغني عن العمق. ولكنهم في الحقيقة يكرسون أزمة الفكر المعاصر: التظاهر بالثقافة بدل التثقّف، والقول دون معرفة، والسطح الذي يتزيّن بثوب العمق.

إنّ الثقافة ليست صخباً ولا موقعاً إلكترونياً ولا لقباً يُضاف إلى الاسم. إنها رحلة شاقة من البحث والقراءة والمراجعة والصدق مع الذات. والمثقف الحقيقي لا يحتاج إلى صراخٍ ليُسمع، لأن صمته أبلغ من ضجيج الآخرين، ولأن أثره يبقى حين تنطفئ كل الأضواء المصطنعة.

لقد آن الأوان لأن تُعاد الهيبة إلى الكلمة، وأن يُفرز الغثّ من السمين، وأن تُحترم التجربة والموهبة كما يُحترم الصدق. فالمشهد الثقافي لا ينهض بالزيف، ولا تزدهر الصحافة إلا بالنزاهة والمعرفة، ولا تقوم الأمة إلا حين تصغي لعقلها لا لصوت ضجيجها.

ففي زمنٍ امتلأ بالمدّعين، يبقى الأمل معقوداً على أولئك الذين ما زالوا يكتبون بحبر القلب لا بمداد المصلحة، يزرعون في القارئ وعياً لا وهماً، ويؤمنون أن الكلمة الصادقة، وإن همسَت، أقدر على البقاء من آلاف الصيحات الخاوية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.